احمد الجارالله: مبادرة النزول عن الشجرة

في اللحظة الحاسمة أدرك العالم أن الضربة العسكرية الغربية لسورية تفتح بابا على مجهول لا يمكن لأحد ان يتوقع تداعياته, فكان البحث عن مخرج يحفظ ماء وجه الجميع, في واشنطن حيث يكافح اوباما مستجديا الكونغرس الموافقة على قراره للحفاظ على حد أدنى من مصداقيته, وفي موسكو حيث تيقنت قيادة الكرملين أنها ستكون في مواجهة خسارة حليفها الاساس في الشرق الاوسط, وفي دمشق التي وجد نظامها نفسه وحده في مواجهة اعتى قوة عسكرية في العالم, وحتى في تل أبيب المرعوبة من انفلات جبهات عدة بعد اول صاروخ تطلقه البوارج الأميركية على الاراضي السورية, ثم في طهران حيث تحسس قادة نظام الملالي اعناقهم خوفا من ان ترتد السكين اليها.
كل هذه المخاوف تجمعت في مشهد واحد كان يحتاج الى قدح زناد الفكر لإنزال الجميع عن الشجرة والخروج من مآزق امتزج فيها الاحراج بالخوف فكثرت الافكار التي تبلورت في نهاية المطاف بمبادرة روسية لوضع السلاح الكيماوي السوري بعهدة الامم المتحدة تمهيدا لتدميره, وهو ما يبعد كأس الضربة العسكرية عن شفاه سورية المستغنية بوضعها الحالي عن تدمير وقتل يزيدان معاناة شعبها اكثر مما يعانيه من مآس مستمرة منذ ثلاثين شهرا ولا يعلم إلا الله وحده الى اين يمكن ان تؤدي بهذا البلد.
لا شك ان موسكو تستحق الشكر على هذه المبادرة, وايضا دمشق التي تلقفتها سريعا وقبلت بها, حتى لو كان فيها تقليم لأظافرها, ونزع لسلاح يرعب اسرائيل, غير ان ذلك لا يعني استسلاما لهذا الطرف او نصرا لذاك, انما هو تأكيد على تجنيب المنطقة مقتلة جديدة عبر نزع الذرائع من ايدي تيار اميركي يسعى الى تدخل جديد فيها, بل هو احباط مسبق لحروب بالوكالة هنا وهناك, مرة بزعم محاربة الارهاب ومرات أخرى بحجة تهديد الأمن القومي للولايات المتحدة الاميركية, كما أنها خطوة لنزع أسلحة الدمار الشامل من الشرق الأوسط ككل.
صحيح ان المبادرة الروسية لاتزال في بدايتها فيما طبول الحرب تقرع من كل مكان والبحر الابيض المتوسط تحول ترسانة حربية بالسفن الاميركية والروسية وغيرها من البوارج المرابطة فيه, وصحيح ايضا ان السلوك الروسي شل مجلس الامن الدولي طوال عامين, لكن علينا الاعتراف ان هذه المبادرة – اذا تيسر لها ان تسير وفق ما هو مطروح وبناء على الافكار التي اعلنت من اكثر من عاصمة اوروبية وغربية – ستعيد الى مجلس الامن دوره, وللقانون الدولي هيبته, فلا تمارس دولة مهما كانت عظمتها وقوتها دور”البلطجي” او الشرطي العالمي, ولا تهدد دولة اخرى مواطنيها وشعبها بأسلحة محرمة دوليا, وهذا ما يحتاجه العالم الذي غرق في الفوضى طوال العقدين الماضيين جراء التغييب القسري للأمم المتحدة ومجلس الامن.
تلافي الضربة العسكرية امر جيد, بل هو مطلب العقلاء, فالعرب لا يحتاجون الى مقتلة جديدة, والى جنون الارهاب بحجة مقاومة العدو الأميركي, إذ يكفيهم الدم المراق يوميا عبثا في سورية والعراق ولبنان وليبيا واليمن ومصر وغيرها من الدول التي ادخلت اليها الفوضى تحت جنح ظلام ما سمي الربيع العربي الذي اصبح شتاء دمويا لا احد يدري متى ينتهي.
الآن فتح الباب لخروج الجميع من مأزق الاحراج الذي وضعوا انفسهم فيه, إذ لا ضربة اميركية لسورية اذا سارت المبادرة الروسية في طريقها الصحيح, وها هي فرنسا المتحمسة للعملية العسكرية كانت اول المبادرين الى جعل الامر قرارا دوليا يصدر عن مجلس الامن, ويكون ملزما لكل الاطراف, وبعد ذلك من أراد ان يدعم النظام في دمشق فليدعمه, ومن أراد دعم المعارضة السورية فليدعمها وليُترك الامر للسوريين انفسهم يقررون مصيرهم فهم ادرى بشعاب بلدهم.
أحمد الجارالله
المصدر جريدة السياسة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.