يلفه كفن التاريخ. يزينه علم الكويت. لا يتسع نعش لحمل أوسمته الحضارية ناهيك عن قامته. لا تقوى الاكتاف على رفع جثمان من رفع الاكتاف والهامات دفاعا عن المبادئ والقيم والحقوق، ولا تجرؤ نظرات على اطالة التحديق في لحظات غياب من كان مدرسة اخلاقية وسياسية رسب فيها كثيرون وتخرّج فيها قلة.
وفي رحيل عمنا جاسم القطامي مفارقات. زمن اعادة الاعتبار للتحرك الشعبي الذي طالما راهن على عدم استكانته وخضوعه… وزمن انهيار القيم والمبادئ التوحيدية الجامعة لحساب المصالح والفئويات والمذهبيات والطائفية.
في الزمن الاول كتب الى المغفور له الشيخ صباح السالم مستقيلا من ادارة الشرطة عام 1956: «كان بودي الاستمرار في عملي مديرا لشرطتكم الموقرة، بيد أن اختلافي مع سموكم (هو) في مسائل تتعلق بمستقبل الشعب وبحريته وكرامته، ومع أنني لا أستطيع أن أحارب هذه الأفكار التي أنا شخصيا مؤمن بها ومستعد للتضحية بالنفس والمال في سبيل استمرارها وبلوغها ما تصبو إليه، لهذا أرجو قبول استقالتي والله يحفظكم». يومها طلب اليه ان يقمع تظاهرات التنديد بالعدوان الثلاثي على مصر فرد بأن الشرطة على استعداد لحراسة التظاهرات وتنظيمها لا ضربها أو تفريقها.
وفي الزمن الثاني، عاش الرجل بلا عمل في وطنه، وبلا جواز سفر في وطنه، وبلا حرية حركة في وطنه، وخضع لملاحقات امنية وقانونية لكنه رفض تغيير حرف من برامجه او مبدأ من مبادئه او قرار من قراراته. لم يساوم او يعقد صفقة او يبع رأيا بكرسي وثير في السلطة. كان حرا في منظومة الاقصاء بينما كان المساومون على المبادئ سجناء في منظومة السلطة.
عاد الى العمل العام مجددا من باب وزارة الخارجية ثم من الباب التشريعي نائبا في اكثر من مجلس ثم من الباب الرياضي، ثم استقال من ذلك كله للتفرغ لحقوق الانسان العربي فأسس منظمات وشارك في هيئات لهذا الغرض واغمض عينيه على… ستارة سوداء تظلل هذه الحقوق.
في كل مراحل التاريخ الكويتي المعاصر المتقدم كان جاسم القطامي موجودا. وفي كل تاريخ العمل العربي لحقوق الانسان كان جاسم القطامي موجودا. وفي كل عمل قومي حضاري كان جاسم القطامي موجودا. وفي كل مراحل تاريخ الكويت المعاصر المتخلف كان جاسم القطامي معترضا. وفي كل انتهاك عربي لحقوق الانسان كان جاسم القطامي مقاتلا من اجل احترام الحريات والديموقراطية. وفي كل عمل قومي غوغائي كان جاسم القطامي منسحبا منتقدا محذرا من النتائج.
غادرنا واقفا بعز ولو كان في نعش. رافعا رأسه ورؤوسنا بفخر ولو كان مسجى. فارسا منحازا للحقوق والأصول والأعراف والحريات ولو ترجل عن حصان أتعبه المسير في صحراء لا نهاية لها. غادرنا بدمع الاسى على رحيل أحد القلائل الذين كشفوا لنا سر العلاقة بين إنسان وتراب، وغادرنا بدمع الأسى على قامات راسخة مهما عصفت بها الرياح الصفر.
… غادرنا العم جاسم القطامي بدمع الأسى على تاريخ مضى لا على رجل قضى.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق