يوسف الشهاب: جاسم القطامي.. أسطورة الرمز والشجاعة والمبدأ

غاب الرمز والأسطورة الوطنية في تاريخ الكويت الحديث، فماذا عساي أن أكتب أمام شخصية من طراز فريد مثل جاسم القطامي، وماذا يمكن للقلم ان يتحدث والكلمات تتعثر فوق السطور غير قادرة على تغطية مساحة شاسعة من العمل الوطني كان فيها أبو محمد، الرمز والواجهة ضمن صفوف الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من أجل وطن أحبوه ووضعوه في أعماق القلوب، وعروبة حملوا لواء الدفاع عنها على امتداد أكثر من خمسين عاماً.

رجل مثل الراحل الكبير جاسم القطامي، لا تطوله عبارة ولا تستقصيه كلمات، هو الكلمة في أدق معانيها وهو العبارة بكل تفاصيلها حين تأتي لتضع أمام الآخرين سجلاً صادقاً وحافلاً يحمل تاريخ رجل من رجالات الكويت الشرفاء الذين لم تغرِهم أضواء زائفة ولا بريق منصب بقدر ما أغرتهم المبادئ الرفيعة التي ناضلوا من أجلها في سبيل بلوغ غاياتها وانتصارا لحرية الإنسان وكرامته وشعوراً بواجب وطني تهون أمامه كل مغريات الحياة الزائفة ويتراجع أمام حقائقه كل زيف براق سرعان ما يختفي أمام حقائق تاريخ الرجل وعنفوان وجوده وموقفه.

كثيرون اختلفوا مع جاسم القطامي، عارضوا فكره الناصري وانتماءه القومي ونداءاته من أجل تكريس إرادة الشعوب، لكنهم بالنهاية احترموا آراءه بل وناصروه حين أدركوا ان أبا محمد يسعى لغاية أسمى وهدف نبيل يعطي للأمة سلطاتها وللإنسان كرامته وحريته، ترك المنصب الأمني الرفيع حين جاءه الأمر بإنزال رجال الأمن لتفريق المتظاهرين في شوارع الكويت عام 1956، رفضاً للعدوان الثلاثي على مصر، وكانت عبارته الشهيرة التي ترك بسببها المنصب الأمني ليبقى من دون وظيفة.. رفض مواجهة رجال الأمن للمتظاهرين وقال عبارته «الشرطة في خدمة الشعب وليست لضرب الشعب».

جاسم القطامي.. التقيت به أول مرة عام 1983 حين الإعداد للجزء الأول من كتاب رجال في تاريخ الكويت، وشعرت حينها انني أمام رجل من طراز نادر، يتحدث الصدق ويتألم بحرقة حين يتعلق الأمر بالكويت، هو رجل خبرة أمنية ودبلوماسية وهو أول وكيل للخارجية ثم خبرة نيابية وفي كل هذه المحطات كان ملء السمع والبصر، يعارض من أجل الكويت لكنه يحترم الطرف الآخر، فلا يسعى الى التجريح بل الى الكلمة الطيبة الصادقة النابعة من القلب إلى القلب.. كبير كان الفقيد في رسالته الوطنية وصادق في توجهاته، حكيم في رؤيته.

فقيد الكويت سيترك فراغاً في الساحة الوطنية وسيبقى في ذاكرة من وقفوا على تاريخه الوطني الحافل بالإنجازات، ليس للكويت وحدها بل للعروبة والإنسان العربي الذي أحب تاريخ جاسم القطامي ومواقفه المبدئية وفكره المتوقد انتصاراً للحق وللمبدأ وللكرامة.. فرحم الله جاسم القطامي رحمة واسعة على ما قدمه للكويت من دور كبير من الصعب على الذاكرة ان تنساه أو تتخطاه من دون الوقوف عنده طويلاً.. طويلاً.

***

• نغزة

في استقالته لرئيس الشرطة عام 1956 قال: كان بودي الاستمرار في عملي مديراً لشرطتكم الموقرة.. بيد أن اختلافي مع سموكم في مسائل تتعلق بمستقبل الشعب وبحريته وكرامته، ومع انني لا استطيع ان أحارب هذه الأفكار التي أنا شخصياً مؤمن بها ومستعد للتضحية بالنفس والمال في سبيل استمرارها وبلوغها ما تصبو اليه، لهذا أرجو قبول استقالتي.. والله يحفظكم.

هكذا هي مبادئ رجل مثل جاسم القطامي.. فكم من رجل يترك منصبه اليوم انتصاراً والتزاماً بمبدأ يؤمن به.. طال عمرك.

يوسف الشهاب
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.