لعل أنسب ما يمكن أن يكون مقدمة لهذه المذكرات… هو كلمات سطرها صاحب المذكرات بخط يده، وكتب فيها:
لقد كانت حرب أكتوبر 1973 محكا للتجربة ومحكا للقدرة… على التخطيط… وعلى القتال.. ولقد كتب الله لنا النصر من عنده… وسجلناه بدمائنا… وأرواحنا.
ولقد كان دور القوات الجوية في هذه الحرب بارزا، فلعبت أروع أدوارها على التاريخ كله، وضرب طياروها وضباطها وجنودها وكل رجالها أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء.
ولقد كان لي شرف قيادتها خلال المعارك وقبلها وبعدها، ما زادني فخرا بقيادتهم، وإن كان لنا أن نسجل أعمالهم للتاريخ، فإن بطون الكتب أحفظ لأعمالهم، وستبقى هذه الأعمال فخرا للأجيال القادمة.
غير أن أسرار حرب أكتوبر.. ستظل محلا لدراسات مكثفة على المستويات العسكرية والسياسية والشعبية، وإن كانت هذه إحداها فالأمل أن تتلوها آخريات.
ولا تزال آمال أمتنا معلقة بقواتها المسلحة، حتى تستكمل النصر تحت قيادة الرئيس باعث الشرارة الرئيس محمد أنور السادات… والله ولي التوفيق.
محمد حسني مبارك
نائب رئيس الجمهورية
• القصة الكاملة لمذكرات قائد القوات الجوية في حرب أكتوبر… السادات أوصى بها … ومبارك أملاها في 1978
• السادات كلف الدكتور رشاد رشدي بكتابة مذكرات نائبه مبارك فاعتذر لأنه كتب «البحث عن الذات» ورشح الشناوي
• حسني مبارك حلل أسباب هزيمة مصر في يونيو وأنهى المذكرات بإعلان انتصاره على موردخاي هود
• عائلة كاتب المذكرات الأصلية احتفظت طوال 35 سنة بالوثيقة المؤلفة من 500 ورقة فولسكاب
• مبارك اطلع على المذكرات في مقر إقامته الجبرية في المستشفى ووافق على نشرها
• محرر المذكرات في نهاية السبعينات إذاعي كبير ومؤلف درامي … استمع لمبارك ستة أشهر
• ما هي قصة الفنانة الشابة التي حقق معها مبارك بعد حفل ساهر في القوات المسلحة قبل هزيمة يونيو؟
• مبارك كتب مذكراته في صورة «مبارزة» مع قائد سلاح الجو الإسرائيلي في حرب 1967
مبارك: الضربة الجوية
لم تكن معجزة أو أسطورة
بقلم عبدالله كمال
قادتني إلى هذه الوثيقة التاريخية المهمة… صُدفة سعيدة. للدقة وجدتني في طريقها، إذ لم أبذل جهدا، ولم أخطط لمسعى كي أحصل عليها… بل لم أكن أعرف بوجودها من الأصل… لم يذكر أحد من قبل أن محمد حسني مبارك نائب الرئيس أنور السادات قد كتب مذكراته… حتى مبارك نفسه لم يعلن ذلك وربما لم يكن يتذكره.
كان كل ما أعرفه أن الرئيس مبارك له مذكرات مسجلة تلفزيونيا عن طريق إدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة في ما بعد العام 2000، وأنه قد دون مذكراته الأخيرة في الفترة بين تخليه عن منصبه في 11 فبراير 2011… وقبل أن يتم التحقيق معه، ومن ثم احتجازه ومحاكمته بعد ذلك.
الحكاية بسيطة للغاية : تعرفت إلى مخرج سينمائي وتلفزيوني شاب وواعد. كان واحدا من بين مجموعة من الشباب الذي بدأت في التواصل معه بعد 25 يناير 2011… كنت ولم أزل أحاول التقرب من جيل جديد لم أكن قد تواصلت معه بقدر كاف للاطلاع على أفكاره.
كان من المهم أن أستمع إلى هؤلاء الذين أعلنوا عن غضبهم ضد حكم آمنت بوطنيته وإخلاصه، مهما كان لنا من ملاحظات على أدائه… أن أقترب من آرائهم، وأعرف ما يفكرون فيه، ولماذا هم غاضبون. وكان من بين هؤلاء الفنان كريم الشناوي.
بعد حوارات مختلفة… بعضها فردي… وبعضها جماعي… بعضها مباشر… وبعضها عبر وسائل العصر على «دردشات الواتس آب»… كان أن دخل كريم مكتبي حاملا هذا النص التاريخي الذي كان قد نسيه الرئيس مبارك نفسه قرابة 40 عاما.
إن كريم هو حفيد المرحوم محمد الشناوي، الرجل الذي كتب تلك المذكرات بعد أن استمع لمبارك شهورا طويلة، وتفرغ لتدوينها أشهرا أطول.
وبين الحفيد والجد كان الأب الذي بقيت المذكرات في حوزته طوال تلك السنوات… الأستاذ حازم الشناوي الإعلامي والمذيع المعروف بالتلفزيون المصري.
قبل سنوات طويلة كنا قد تعارفنا… أنا وحازم الشناوي، إذ كان يقدم في نهاية التسعينات برنامجا شهيرا يذاع على القناة الثالثة، اسمه «غدا تقول الصحافة»، بموازاة برنامج آخر أوسع شهرة اسمه «الكاميرا في الملعب».
كنا في مختلف الصحف القومية نسعى لأن نكون ضيوفا في برنامج «حازم» الذي أصبح مشهورا بحواراته مع الأستاذ الكبير مفيد فوزي رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» في ذلك الحين… كان مفيد قد أضاف إلى نجوميته مقدارا جديدا بطريقة عرضه الجذابة للمجلة مع حازم الشناوي قبل صدور عددها الجديد بليلة، كل أسبوع.
وكان في داخل كل منا، نحن الصحافيين الشباب، أمنية صغيرة يرجو أن تتحقق بأن نقدم عرضا لصحفنا من خلال هذا المذيع اللافت… وكنت أرجو أن يأتي ترتيب الحلقات ذات يوم بحيث أعرض «مجلة روز اليوسف» باعتباري مساعد رئيس تحريرها مع الأستاذ حازم الشناوي… كنت أعتقد أنني يمكن أن أقترب من أسلوب عرض مفيد فوزي الناجح.
مرت سنوات طويلة منذ آخر لقاء، ربما خمسة عشر عاما على الأقل، حين زارني الأستاذ حازم مع ابنه كريم وفي يده «وثيقة أبيه»… التي كتبها على لسان حسني مبارك… راويًا قصة القوات الجوية في حرب أكتوبر، وكيف صنع هذا المجد العظيم. في هذا اليوم أولتني عائلة الشناوي ثقة تمنيت أن أكون على قدرها.
روى لي حازم الشناوي قصة أبيه مع تلك المذكرات. وقد كانت بدورها قصة بسيطة ولكنها شاءت أن تضيف من بساطتها بعضا من الحكمة إلى وقائع التاريخ… وأدخرها الزمن بطريقة غير متوقعة لكي تكون ذات يوم شهادة موثقة عما تم إغفاله حينا أو الغضب منه حينا آخر.
كان المرحوم الرئيس محمد أنور السادات قد أصدر مذكراته الشهيرة «البحث عن الذات» في أبريل 1978، وقرأها كثير من المصريين… في مطلع شبابي ونهاية صباي كنت واحدا من هؤلاء… النسخة كانت تباع بـ25 قرشا. وقد كانت عامرة بتفاصيل كثيرة وسيرة رئيس حكى نفسه وروى عن نفسه… وكان أهم ما يميز «البحث عن الذات» ما يتعلق بالوقائع التاريخية النابضة والحية وقتها… تلك التي تخص سجل السادات الأعظم في حرب أكتوبر المجيدة… فضلا عن بدء مسيرته نحو السلام مع إسرائيل.
كان السادات واعيا بأهمية الكتب، وضرورة أن يكتب هو بنفسه، وهو ما عرف عنه منذ سنوات طويلة… كان قد بدأ الكتابة خلالها في عديد من الصحف المصرية أبرزها المصور والهلال في حدود العام 1948. ثم بعد ثورة 1952 كان أن أصدر مجموعة من الكتب… هي : قصة الثورة كاملة، يا ولدي هذا عمك جمال، معنى الاتحاد القومي، 30 شهرا في السجن، نحو بعث جديد، القاعدة الشعبية… ثم في نهاية السبعينات أصدر «البحث عن الذات» وفيه روى قصة حياته.
حين صدرت جريدة «مايو» في نهاية السبعينات، ناطقة باسم الحزب الوطني الذي أسسه السادات بديلا لحزب مصر العربي، وعقب بدء التعددية الحزبية، كان أن أملى مجموعة مقالات باسمه عنوانها «عرفت هؤلاء»… وكان معروفا كذلك أنه يملي مباشرة أو بشكل غير مباشر على الأستاذ أنيس منصور كثيرا من المقالات التي تظهر في صور حوارات بمجلة أكتوبر. وبنفس الأسلوب مع تفاصيل مختلفة في الطريقة كان أن كتب المرحوم الدكتور رشاد رشدي أستاذ الأدب والنقد الكبير مذكرات السادات «البحث عن الذات».
كان الرئيس الراحل مولعا بالتوثيق، ومعنيا بالكتابة، ومهتما بالكتب، حتى رغم أن الدعاية اليسارية ضده قد رسخت في الذهنية العامة أنه لا يحب القراءة ويصيبه الملل من التقارير المكتوبة. واحدة من بين الترويجات غير المدققة التي انتشرت في ثقافتنا دون أن تخضع لأي مراجعة… ولم يكن اليسار وحده مشاركا في مثل تلك الترويجات، بل كان لدى الإخوان ماكينتهم الي… كما لم يكن السادات الضحية الوحيدة لهذا… بل عانى مبارك ما هو أكثر وأعرض وأشد تأثيرا… لأن حكمه بالطبع كان أطول ولأنه تقاطع مع الاثنين معا : اليسار والإخوان.
عين الرئيس الراحل أنور السادات الفريق طيار حسني مبارك نائبا له في 1975. وقد كان هذا القرار مثيرا للجدل وقتها، حول أسباب الاختيار، ولماذا مبارك بدلا من كل العسكريين المجايلين له، وفي صدارتهم قادة حرب أكتوبر زملاؤه… وفيهم من هم أقدم منه.
وحده السادات كان يعرف ماذا يفعل… كان القرار معبرا بصورة واضحة عن اقتناعه بقدرات مبارك، والدور الذي قام به في حرب أكتوبر… وكان من الأكيد أن لدى السادات تقديرا عميقا للانتصار الخاص الذي حققته الضربة الجوية في بداية الحرب الضارية لاستعادة الكرامة وتحرير الأرض المصرية من الاحتلال الإسرائيلي… تقدير لا بد من الانتباه إليه، بينما كان مبارك هو القائد الذي استشهد شقيق السادات الأصغر عاطف في الطلعات الجوية التي قررها يوم 6 أكتوبر.
ومن الواضح أن تقدير السادات كان قد شمل ما هو أبعد… إذ كان هو صاحب فكرة تلك المذكرات لكي يروي فيها نائب الرئيس حسني مبارك قصة ما حدث بعد هزيمة 1967 وصولا إلى نصر 1973.
اتصل الرئيس السادات بالدكتور رشاد رشدي، وكلفه بأن يكتب مذكرات قائد سلاح الجو، نائب الرئيس، وأن يستمع منه إلى قصة هذا المجد الذي يجب أن تضم تفاصيله دفتي كتاب للتاريخ… اعتقد السادات أن الدكتور رشاد باعتباره كاتب مذكراته الناجحة سيكون الأنسب لكي يخوض جولة نجاح إضافية بمذكرات حسني مبارك.
من المدهش، وإن كان من المنطقي، أن اعتذر الدكتور رشدي. أسبابه يمكن تفهمها. كان تبريره للسادات مبنيا على أساس أنه كتب مذكرات الرئيس ولا يمكنه أن يدون بنفس الأسلوب مذكرات نائب الرئيس. اقتنع الرئيس السادات وطلب منه أن يرشح بديلا… كان هو الأستاذ محمد الشناوي.
كان الأستاذ الشناوي درعميًّا، حصل على ماجستير في علم النفس، وكان إذاعيا مرموقا… في زمن كانت فيه الإذاعة نجمة وسائل الإعلام، بينما شاشات التلفزيون لم تصل إلى جميع بيوت مصر كما هو الحال الآن. كان قد قطع طريقا طويلا في خبرة العمل كإذاعي قدير… عمل مذيعا لسنوات طويلة، وهو صاحب فكرة تأسيس الإذاعات المحلية، وأول مدير لمحطة «القاهرة الكبرى»، ومؤلفا دراميا في سجله ما لا يقل عن مئة سهرة وخمسين مسلسلا، بخلاف التدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية، وكلية ضباط الشرطة المتخصصين.
وفقًا لرواية حازم الشناوي عن والده الراحل فإن محمد الشناوي اجتمع مع نائب الرئيس محمد حسني مبارك عشرات المرات، روى له فيها كل تفاصيل ودقائق السنوات الست التي قضاها في عملية إعادة بناء القوات الجوية، منذ كان ضابطا قياديا… تلقى ضربة يونيو وهو لم يزل قائدا لقاعدة بني سويف الجوية… حتى أصبح مديرا للكلية الجوية وإلى أن أصبح قائدا للقوات الجوية محققا النصر الجوي الأهم في تاريخ مصر.
وقد كتب محمد الشناوي النص في حدود 500 ورقة فلوسكاب بخط اليد، بعض صفحات منها كان قد دون عليها الرئيس مبارك ملاحظات بخط يده بقلم أحمر… خصوصا في ما يتعلق بالمعلومات الفنية والعسكرية الدقيقة… وتمثل هذه الأوراق الوثيقة الأهم حول تلك السنوات وهذا السلاح وهذا البطل… إذ لا توجد تقريبا غيرها بهذه الدقة وتلك الشمولية وهذا التنظيم… والأهم على لسان محمد حسني مبارك… صانع هذا التاريخ بين كل صناع التاريخ من الجيل البطل الذي حقق نصر أكتوبر.
ليس معروفا على وجه الدقة ما السبب الذي منع نشر تلك المذكرات، وما الذي عطل عملية النشر بعد أن اكتملت الوثيقة… إذ لم أجد لدى الأستاذ حازم ما يمكن نقله عن والده في هذا السياق. غير أن المؤكد أنه كان هناك حرص عائلي على الاحتفاظ بالوثيقة إلى أن يحين وقت تنفيذ وصية الوالد الراحل بالنشر، عندما يجد ابنه ذلك مناسبا.
في بداية 2013 وضع الأستاذ حازم الشناوي ثقته في كاتب هذه السطور، وسلمني صورة من تلك المذكرات ـ الوثيقة، لكي تجد طريقها إلى النور، وترك لي ـ مشكورا ـ أسلوب ترتيب ذلك… توثيقا وتدقيقا، وأرجو أن أكون على قدر ثقة العائلة الحائزة للوثيقة، وثقة صاحب المذكرات، وقبلهما ثقة القارئ الذي نقدم له هذا العمل التاريخي المهم.
للوهلة الأولى، أثبتت قراءة تلك المذكرات، وبما لا يدع مجالا للشك، أنها للرئيس مبارك، سواء من حيث الوقائع الشخصية القليلة التي يرويها، أو من حيث المعلومات الفنية والعسكرية التي تضمنتها، أو من حيث تنظيم المادة المروية عن طريقة إعادة بناء القوات الجوية واستعدادها لحرب أكتوبر ومن ثم تفاصيل ودقائق الضربة الجوية الساحقة لإسرائيل في أكتوبر 1973… فضلا عن الملاحظات الخطية التي وجدتها على جانبي بعض الصفحات وهي بخط أقرب إلى أن يكون ما أعرفه عن خط الرئيس الأسبق لمصر.
في غضون الأشهر القليلة التي تلت وصول هذا النص إلى يدي، لم تتح فرصة مناسبة لإطلاع الرئيس أو أي من أفراد عائلته على المذكرات: ولديه علاء وجمال أو السيدة قرينته.
كنت أرغب في أن تكون هذه الخطوة عملا مزدوجا : يحقق أولا توثيق النص، وثانيا السماح بنشره.
كان يمكن أن أمضي في إجراءات النشر، وسط مناخ شغوف بأي شيء عن مبارك… لكني لم أجد أنه مطابقا للمعايير الأخلاقية أن يتم النشر دون إطلاع أي من أفراد عائلة الرئيس مبارك على المكتوب منسوبا إليه… مع كامل التقدير والثقة في أسرة الشناوي الحائزة للوثيقة نقلا عن الأستاذ الراحل محمد الشناوي.
في أغسطس 2013… بُعيد صدور الحكم بأحقية الرئيس مبارك في أن يتم الإفراج عنه إجرائيا من الحبس الاحتياطي الذي قيد حريته لسنتين… كان أن أبلغت الأستاذ فريد الديب المحامي الكبير والمدافع القانوني عن الرئيس مبارك بالأمر… وتكرم سيادته وعرض الأمر على الرئيس مبارك… حيث كان في مقر إقامته الجبرية في مستشفى المعادي… وكان أن تذكر الرئيس الموقف الممتد بينه وبين المرحوم محمد المنشاوي، وطلب أن يقرأ مذكراته.
وتكرم الأستاذ فريد مجددا ونقل الخبر إليَّ، فبدأت على الفور المرحلة الثانية من التعامل مع هذه المذكرات المهمة، تمهيدا لعرضها على صاحبها الرئيس مبارك… وقد عرضت عليه، وقرأها ووافق على نشرها. وبموجب هذا تنشرها دار نهضة مصر وجريدة «الراي» بعد موافقته على ذلك.
لم تقف المهمة التي كلفت بها نفسي عند مسألة توثيق النص، والتأكد من انتسابه التاريخي للرئيس مبارك، ولا عند تولي إدارة عملية نشره عبر الدار المحترمة «نهضة مصر»… ولا عند كتابة هذا التقديم النقدي الشارح للكتاب والراوي لملابساته. بل آليت على نفسي أن أجعله أكثر حداثة عما كان عليه وأن أحرره بما يلائم سنة صدوره في 2013… مع كل التقدير والاحترام للجهد الذي بذله الأستاذ المرحوم محمد الشناوي في نهاية السبعينات من القرن الماضي، أي قبل نحو 40 عاما.
لقد حافظت على روح الأسلوب، ولغة الكتابة، والاقتباسات التي أوردها محمد الشناوي من تلقاء نفسه كما يمكن أن أخمن مهنيا، أو تلك التي أوصى بها الرئيس مبارك كما أتوقع من خلال تحليل المضمون.
يمكن توقع أن محرر المذكرات الأول قد اهتم ببعض المأثورات والأحاديث النبوية وبعض المذكرات العسكرية… وضمنها الصفحات أثناء صياغته للنص المنقول عما سمعه من نائب الرئيس… كما يمكن أن يقودنا الحدس إلى أن مبارك قد اهتم بما ذكرته إسرائيل عن العمليات العسكرية وما ورد في كتبها وتصريحات مسؤوليها… وتوثيق ذلك عبر أدوات المؤسسة العسكرية التي كانت تهتم بذلك منذ زمن بعيد وتتابعه وتعرضه في تقارير دورية على قيادتها المختلفة.
بخلاف ذلك فإن تراتبية المذكرات، وتوالي تفاصيلها، ودور القوات والأفرع، ومهام الأفراد والقادة، وسجلات البطولات الشخصية، وغير ذلك هو من صميم شخصية القائد صانع النصر الجوي… الذي لم يكن يروي مذكراته الشخصية، بقدر ما كان يملي مذكرات القوات الجوية في السنوات الست التي سبقت أكتوبر 73 وقادت إليه.
في هذا السياق قمت ببعض الجهد في عملية تحرير إضافي لهذه المذكرات، يمكن أن أوجزه وفق مقتضيات الأمانة المهنية والتاريخية في ما يلي :
* تغيير عنوان النص من «كلمة السر… صِدام ـ من يونيو 1967 إلى أكتوبر 1973» إلى «المذكرات الأولى لحسني مبارك». ويمكن فهم لماذا اختار الأستاذ الشناوي عنوانه الأول تخليدا لاسم العملية الهجومية القتالية التي قامت بها القوات الجوية المصرية في أكتوبر 1973… على أنه قد لا يبدو العنوان واضحا الآن، لا سيما أن الكثيرين سيحتاجون إلى تشكيل النطق لكي يكون حرف «الصاد» مكسورا وينطق صحيحا بدلا من أن يشير إلى اسم رئيس العراق الراحل صدام حسين.
والأهم لأن العنوان المقترح من جانبي بديلا يشير إلى حقيقة تاريخية وتعبر عما هو يعبر بنطاقه فوق تفاصيل تلك العملية الجوية المجيدة إلى ما يخص صاحب المذكرات نفسه وقد أضاف إلى سيرته جدلا مهولا بعد المتغير الدرامي الذي حدث في يناير ـ فبراير 2011 منهيًا حكمه لمصر طوال 30 عاما.
* قمت بعدد من عمليات التكثيف والاختصار، التي لا تخل بقيمة النص، ولا روح السياق الذي قام به الأستاذ الشناوي. وكان سبب ذلك هو اعتقادي بأن النص الذي وصل يدي كان قيد المراجعة ولم يكن نصًّا أخيرا… فضلا عن أن الطبيعة الإذاعية للغة الأستاذ المرحوم محمد الشناوي كانت تميل به إلى أن يضع تكرارات من فصل لآخر مذكرا بها، حسب أسلوب العمل الإذاعي، مقارنة بما هو غير معتاد في أساليب التحرير المقروءة.
* قمت بإعادة التبويب عن طريق الدمج، وليس بإعادة الترتيب… بمعنى أنني حافظت على درامية وتاريخية العمل كما دونه الأستاذ الشناوي، غير أني ألغيت التوزيع بطريقة الأبواب الرئيسة المتضمنة لفصول داخلية فرعية، وجعلتها كلها فصولا متتابعة، ما اقتضى دمج بعض الفصول.
كانت المذكرات موزعة كما يلي : مقدمة، وسبعة أبواب، تتوزع كلها على فصول، بعضها أربعة وبعضها خمسة، باستثناء الباب الرابع فهو كتلة واحدة، وخاتمة.
في تبويبها الجديد، وبعد دمج عديد من الفصول، صارت هذه المذكرات مكونة من مقدمة و13 فصلا وخاتمة، بخلاف هذا التقديم.
* قمت ببعض عمليات إعادة تنظيم الفقرات، وإعادة كتابة بدايتها، محاولا أن يكون هذا أكثر تناسبا مع لغة تحرير مغايرة… ودون إخلال بالجهد المبذول قبل أربعين سنة.
* حررت هذا التقديم التاريخي ـ التوثيقي، والنقدي، الإضافي والواجب.
إن صدفة العثور على تلك المذكرات هي نفسها بعض قيمتها، من حيث إنها وصلتني عبر شاب ينتمي إلى جيل رفض الكثير من أبنائه حسني مبارك، وخرجوا ثائرين ضده، ذلك أن هذا الجيل لم يعرف مبارك… ولم يعرف الجيل الذي أنتمي إليه كقائد عسكري… مجدته الأغاني الدعائية ولم تشر إلى قيمة عمله وإنجازه الحقيقي وثائق منضبطة وذات قيمة تاريخية وعلمية. هذه الوثيقة تكمن أهميتها في أنها تربط بين أجيال حققت وفعلت وأجيال لم تعرف.
ليست تلك مشكلة يتحملها الجيل الجديد وحده. حين تفرغ مبارك نفسه لذكر بعض ما فعل في هذه الحرب المجيدة حدث أن تعطل وصول رسالته. مرات لأنه كانت قد مضت سنوات طويلة فلم يعد يسرد تفصيلا حقيقة الضربة الجوية، وكان يذكر بعض العناوين العابرة في حوارات سريعة غير مهتمة بالدقائق والمكونات الصغيرة لحدث كبير. ومرة لأن هذه المذكرات لم تعرف طريق النشر. وقد أخذته السنوات وتفاصيل الحكم ومتغيرات الأيام، التي ربما بدا بعضها كما لو أنه حروب متكررة تتطلب عبورا تلو آخر… وترتيبا لإعادة البناء مرة بعد غيرها.
وعلى الرغم من أنه توجد بعض الكتابات هنا أو هناك حول السنوات الثلاثين لحكم مبارك، فإن كثيرا منها لم يهتم بالغوص في تفاصيل، واكتفى البعض بما يمكنه اعتباره مجاملة لرئيس، ورأى فيه الجيل الجديد أنه نفاقات… واهتم البعض الآخر بما يمكن اعتباره هجوما سياسيا على رئيس، رأى فيه مؤيدوه ظلما له. وحتى لحظة صدور هذا الكتاب فإنه لم توجد بعد مصادر واضحة ودقيقة وشاملة وموضوعية لا عن سنوات حكم مبارك، ولا عنه شخصيا… لا عن سيرة السياسي الحاكم ولا عن تاريخ العسكري البطل.
هذا تناقض مريع تاريخيا، بين حقيقة أن الرئيس مبارك قد حكم ثلاثين عاما، وامتد مساره العملي لأكثر من خمسين سنة، وبين كونه الرئيس الذي لم تدون عنه تاريخيا كثير من تفاصيل سيرته… لا قبل أن يكون رئيسا ولا بعد أن أصبح رئيسا ولا عقب تركه لمنصبه كرئيس.
لقد اكتفى مبارك وحكمه بالمادة الإعلامية السيارة التي كانت تغطي أنشطة يومية ووقائع إخبارية، للدقة هو لم يكتف… وإنما لم يسع. ولا يوجد بشأن سيرته كتاب تحليلي شامل، أو سيرة موثقة، أو أي منتج ثقافي متعمق آخر. إن الكتاب الذي يمكن أن تعثر عليه بشأن مبارك قد يكون دعائيا أو ألبوما مصورا… أو كتابا انتقاديا هجوميا رافضا.
وبالموازاة لمبارك، فإن حرب أكتوبر، وهي تتخطى دور شخص بعينه، وتشمل بطولات ومواقف وأدوار لمئات الألوف من المصريين، كان بدورها أن لقيت ظلما تاريخيا ولم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام التفصيلي والدقيق… حتى مع صدور عدد من مذكرات بعض من كبار قادتها. ربما لأسباب ودواعي السرية التي فرضت عليها وعلى تفاصيل حقوق المعرفة العسكرية التي أحاط بها الكتمان عقودا… وربما لأن النصوص التي صدرت لم تتضمن تفصيلات محددة بالطريقة الاستثنائية الواردة في هذه المذكرات على لسان نائب الرئيس محمد حسني مبارك.
باستثناء مذكرات الفريق محمد عبدالغني الجمسي فإن الصورة التي تصل عن حرب أكتوبر إلى الأجيال الجديدة تبدو غير مكتملة وتحتاج إلى مزيد من التفصيل… بل إن قائدها الميداني الأهم، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع المشير أحمد إسماعيل لم يمنحه الزمن فرصة لكي يروي تجربته ومسيرته وقصة الانتصار الذي سجل فيه اسمه.
لقد مضت سنوات طويلة على حرب أكتوبر، وبمضي السنوات طوى النسيان مذكرات قادة حرب أكتوبر، الذين لم تنشغل بهم تفصيلا الحركة النقدية والأعمال البحثية، والعملية التي تبقى قيم تلك الحرب وأهميتها التاريخية يقظة في ذهن وعقل الأجيال التالية… لا تحليل ولا دراسات ولا مراجعات… لم تعد حرب أكتوبر مدرجة أصلا عن الخطط البحثية للجامعات والمعاهد المصرية.
وبنفاد سنوات هذا الجيل صانع النصر، فإن الأعمال التي تتناول حرب أكتوبر ودقائقها انقطعت، ولا تضم المكتبات العربية والمصرية إلا مؤلفات نادرة عن الوقائع وتحليلها ودراستها وبحث تأثيراتها. ومن هنا فإن صدور تلك المذكرات التي أملاها نائب الرئيس محمد حسني مبارك يسقي تربة ذاكرة قد جفت، ويرطب اهتماما قد ذبل.
وليس بعيدا عن هذا الظلم المتراكم أن حربا معنوية وتاريخية وعلمية قد تم شنها على قيمة حرب أكتوبر ومجدها، تشويها وتقليلا وإضعافا، بل تحويلها ـ استسلاما للرواية الإسرائيلية ـ إلى حرب متعادلة في أفضل الأحوال… وفي أحوال أخرى وفقا لروايات غير عربية بدت كما لو أنها هزيمة ناقصة أو نصرا غير مكتمل.
هذا أمر جلل وخطير وجدير بالانتباه بالنسبة لاهتمامنا بأجيال صار عليها أن تستسلم لحملات دعائية جعلت من الصمود الخاسر من قبل بعض التنظيمات في معارك عابرة نوعا من الانتصار، وأصبح عليها أن تقتنع بأن الجيش المصري بلا مجد مادام لم يخض حربا منذ انتهت حرب أكتوبر 1973.
إن أهمية «المذكرات الأولى لحسني مبارك» لا تكمن فحسب في صاحبها، بقدر ما تكمن كذلك فيما ترويه عن المؤسسة العظيمة التي كان هو أحد أبطالها، وأبطال انتصارها في أكتوبر 1973… ويعزي ذلك إلى الطريقة التي روى بها مبارك تفاصيل عملية إعادة بناء القوات الجوية… باعتبارها الخاسر الأهم والأكبر في هزيمة يونيو 1967… ومن ثم باعتبارها صاحبة ضربة النصر الأولى في حرب أكتوبر 1973 المجيدة.
لا يمكن اعتبار هذا الكتاب «مذكرات شخصية»، وإن كان «مذكرات» بالتأكيد، ذلك أن نائب الرئيس محمد حسني مبارك لم يجعل من نفسه محورا لها، ولم يتطرق إلى ذاته إلا في مرات نادرة. لقد جعل من الكتاب سجلا لسنوات تطوير القوات الجوية، وانتقالها من الهزيمة إلى النصر… وبدا خلال تلك الصفحات شاهدا غير معلن أكثر من تقديمه لنفسه على أنه فاعل رئيس. من المدهش أنه لا يتوقف عند محطات تاريخية مهمة ليروي تفاصيل كيف أصبح مديرا للكلية الجوية ومن ثم كيف عين رئيسا للأركان وكيف تم اختياره قائدا للقوات الجوية.
مشهدان يركز عليهما حسني مبارك بشأن نفسه، الأول وهو مهزوم… يشعر بالظلم الفادح لأنه لم يقاتل… عاكسا تلك الصورة على جميع الأفراد والقادة في القوات الجوية خاصة والقوات المسلحة عموما. والثاني وهو منتصر يثبت بروايته لا بالحديث عن عمله الشخصي كيف أثبت المقاتل المصري جدارته وكيف تمكن من أخذ أسباب العلم والقوة لكي يثأر لنفسه ولأمته.
بدا مبارك حريصا على عدم التفاخر في هذه الوثيقة، ليس لأنه أصر على أن يكون ملتزما إلى حد بعيد بالغرض الذي وجد أن الرئيس السادات قد استهدفه… أي أن يروي قصة الضربة الجوية، ومن ثم تباعد عن أن يكتب سيرة صاحب الضربة الجوية… ولكن أيضا لأن تحليل المضمون يثبت أنه ابتعد عن منطق «التفاخر القومي»… وانتهج منذ الصفحات الأولى، وبإصرار، أسلوب التحليل العلمي والواقعي… وصولا إلى نتيجة محددة وهي أن ما تحقق من القوات الجوية لم يكن «معجزة» أو «أسطورة».
كان منطق مبارك المعلن لتبرير ذلك، هو أنها إذا كانت «معجزة» أو «أسطورة» فإنها تكون بذلك حدثا استثنائيا، منحة عابرة، بينما أراد أن يثبت طوال صفحات ذلك الكتاب… كما فعل توثيقا… أن العملية الجوية «صِدام» كانت نتاج تقييم وتخطيط ودراسات وتدريب وإصرار وإرادة… يمكن أن يتكرر إذا تكرر ذات الجهد الذي تم بذله من أجل الوصول إلى هذا النصر… وإذا تكررت المبررات الداعية لحدوثها.
لقد أخفى مبارك نفسه من مذكراته الأولى، من حيث إنه لم يكتبها بطريقة أنه في يوم ما استدعى أو قابل أو وجه بأمر معين، وفي يوم آخر اجتمع بهذا أو ذاك… ومن حيث إنه لم يقل قابلت وسمعت وفكرت وقررت وقرأت… وإنما دونها بطريقة «مسيرة فريق» من الأفراد والقادة، في مختلف قواعد وألوية وأفرع القوات الجوية، وفي سياق منظومة القوات المسلحة برمتها.
في هذه المذكرات: لم يكتب مبارك عن مبارك، مباشرة، إلا ثلاث مرات تقريبا، الأولى حين تحدث عن مشهد معاناته من الهزيمة، والثانية حين روى واقعة لجنة التحقيق التي فوجئ بأن شاهدة أمامها قد ذكرت عنه رواية غير صحيحة دون أن تعرف أنه يرأس لجنة التحقيق التي تستمع إليها، وكانت الثالثة عندما روى كيف شارك في خطة الخداع الاستراتيجي لمفاجأة الحرب.
عوضا عن هذا، جعل مبارك من تلك المذكرات مبارزة منهجية متصاعدة بينه وبين القائد الإسرائيلي الجنرال موردخاي هود مخطط وقائد الضربة الجوية الإسرائيلية التي أوقعت الهزيمة بمصر في صباح يوم 5 يونيو 1967.
وقد كان هذا الأسلوب اللافت مهمًّا للغاية في التعبير عن فكرة الكتاب من حيث إنه جعل هذه المواجهة تحقق ما يلي :
1- إكساب المذكرات بعدا دراميا صراعيا، يمزج ما بين الشخصي والعام، من حيث أن المواجهة كانت بين قائدين… أحدهما كسب جولة والثاني يخطط للثأر، ومن حيث إنها كانت بين اثنتين من القوات الجوية المتحاربة، ومن حيث إنها كانت كذلك صراعا بين بلدين وشعبين..بين مصر وإسرائيل.
2- منحت هذه المواجهة التي صنعها مبارك لمؤلفه فرصة أن يحلل ما قام به خصمه، وأن يعطيه بداية الاعتراف بأنه قد حقق مكسبا، ثم يسحب هذا الاعتراف ويهدم هذا المنهج بتأكيد كونه لا يعبر عن ابتكار خاص، ولا يمثل إنجازا، ويفتقد إلى الشرف، ويستند إلى عوامل مساعدة لو لم تكن متوافرة ما أمكن لمردخاي هود أن يحقق نصره.
3- أعطت المواجهة بهذا الشكل للقائد المصري حسني مبارك فرصة أن يأخذ قارئه خطوة تلو أخرى نحو إعلان انتصاره على القائد الإسرائيلي… بقصد إبلاغ رسالته الأساسية وهي أن «الإسرائيلي» وما يمثله ليست لديه أي ميزات استثنائية… وأن «المصري» هُزم لأنه واجه عيوبا نتجت عن «تقصير» وليس لأنه مهزوم بالفطرة، أو لأنه يعاني من «قصور» مولود به كما أرادت هزيمة يونيو ـ من جانب إسرائيل ـ أن تقول وتروج.
4- استخدم مبارك هذه المواجهة، بدهاء مبهر، لكي يؤكد على جِدة وحداثة الضربة الجوية التي خطط لها ونفذها، وكيف أنها كانت مبتكرة ومبدعة، ونتاج العقل المصري، وتمثل إضافة حقيقية في تاريخ القتال الجوي… مقارنا بين أداء القوات المصرية في 1973 والقوات الإسرائيلية في يونيو 1976.
بمقاييس المقروئية العادية تبدو صفحات هذه المذكرات أقرب إلى أن تكون جافة، لأنها لا تتضمن مشهيات القراءة المتوقعة… فهي لا تتضمن قصصا وحكايات ومشاهد طريفة… إلا حين تصل إلى فصلها الأخير… عندما يحرص مبارك على ذكر عديد من أمثلة البطولات التي قدمها الطيارون والمقاتلون في القوات الجوية… وكلها احتوت على قيم ملهمة ومآثر خالدة.
في النص الأصلي الذي حرره الأستاذ الشناوي كان أن ضم كل تلك القصص في فصول تحت الباب السابع، ووزع قصص الأفراد بحسب كل فرع في القوات الجوية.
تحريريا كان يمكنني أن أوزع القصص الإنسانية والبطولات المميزة لأفراد وقادة القوات الجوية التي أوردها الفريق طيار محمد حسني مبارك على مختلف فصول الكتاب… كان هذا سيوفر فرصا لمزيد من أساليب الإمتاع أثناء القراءة… غير أن هذا كان سيخل بالترتيب الأصلي للنص المكتوب، الذي بني ترابطيا انتقالا من محور إلى آخر، ومن مرحلة إلى غيرها، ثم توج في النهاية بالفصل الأخير الذي يحكي قصص الأمجاد الشخصية… وبمنتهى الحرص على أن يبدو ذلك في سياق روح فريق واحد.
للباحثين عن المتعة ـ القراءة عندي لا بد أن تضيف انبساطا يتوج المعرفة ـ تكتسب هذه المذكرات رونقها وإمتاعها من جوانب أخرى، إذ بخلاف هذه المواجهة المستمرة بين مبارك وموردخاي هود، كانت المهمة التي أولى مبارك نفسه بها هي أن يسقط في كل صفحة واحدة من الأساطير التي روجتها إسرائيل عن نفسها بعد يونيو 1967… بأسلوب علمي وطريقة واقعية، لم تذهب نحو الحديث عن البطولات افتخارا… بل نحت إلى التأكيد المستمر على منهج «الأخذ بالأسباب».
وفي صراعه هذا مع الجنرال مردخاي هود، وحتى وهو ينتقده، ويؤكد أن خطة ضربة يونيو 1967 منقولة عن الفكر الإنجلو فرانكفوني العسكري في حرب 1956، فإن مبارك كان يعطي لخصمه قدرة… إذ على قدر الخصم وقوته كان حجم النصر وتاريخيته.
لقد نقل الفريق طيار حسني مبارك الحرب إلى صفحات مذكراته، كما لو أنه كان في غرفة عمليات القوات الجوية، يخطط، وينفذ، ويأمر بالتدريب، ويرقي مستوى التسليح، إلى أن حانت لحظة القتال… في كل صفحة، أو للدقة، كل فصل كان يسير بالتفاصيل عبر هذا المسار ونحو هذا الاتجاه.
إن الاطلاع على هذا النص لا يؤكد فقط جدارة مبارك بأنه كان طيارا مقاتلا تاريخيا، ولكن ـ وهذا مهم للغاية ـ يحيي في ذاكرة الأمتين المصرية والعربية مدى وحجم هذا الإنجاز الذي تحقق، وكيف أنه يمكن لهما أن تمضيا في طريق مختلف نحو الحداثة إذا اتبعتا ذات المنهج وتصديتا للتحدي… وكان الهدف محددا وطريق الوصول إليه كان عبر العلم والتدريب.
رسالة ومنطق الكتاب هو أن :الهزيمة ليست قدرا، والنصر ليس صدفة… وفي سبيل ذلك، ووفق التزامه بمعايير السرية التي كانت مفروضة وقتها حتى على نائب رئيس الجمهورية، فإن محمد حسني مبارك يشرح في فصول متتابعة كيف تحقق النصر… وكيف تم التغلب على الهزيمة. وقبل ذلك فإنه بمنهج القوات المسلحة المصرية يقيِّم ما وقع وأسبابه والدروس المستفادة منه، وطرق علاج الأخطاء، وكيف أمكن امتلاك أدوات الانتصار.
لم يكن الطريق إلى النصر سهلا ويسيرا، كما لم تمر السنوات من 1967 إلى 1973 بسلاسة… وبقدر ما تبدو مروية الأعوام المريرة عادية وبسيطة ونحن نقرأها الآن بعد أربعين عاما من النصر، بقدر ما كمنت فيها عوامل قسوة المهمة وعبء الثأر وضخامة العمل وحجم التضحيات. وفي هذه الصفحات كان أن قدم حسني مبارك ذلك العمل التاريخي، وهو جانب من بين جوانب العملية العسكرية كلها في أكتوبر 1973 كما لو أنه يمكن لأي أحد أن يقوم به… في حين أنه لم يكن كذلك على الإطلاق… ولعلنا نلاحظ بالاطلاع على هذه المذكرات ما يلي :
1- قبل بناء المقاتل بدنًا وتسليحا وتدريبا كانت المهمة الأصعب والأهم هي إعادة بنائه نفسيا ومعنويا. في مذكراته أعطى مبارك جهدا عميقا ومثابرا لكي يشرح ذلك وأهميته ودوره في تأصيل وترسيخ عقيدة القتال، واستنهاض المصري من هزيمته، في ضوء أن الهدف الذي رأى مبارك أنه كان مخططا من قبل إسرائيل في يونيو 1967 هو قهر المواطن المصري خصوصا والعربي عموما نفسيا وتنكيس ذاته بحيث لا تقوم لها قائمة من جديد.
2- بخلاف البناء المعنوي، فإن المقاتل بنى معرفيا، ومن اللافت أن القائد حسني مبارك ركز على أن ردود أفعال المقاتلين وقراراتهم القتالية لا تكون متحصلة فقط من عمليات تدريبهم وتسليحهم وتجهيزهم معنويا… بل رأى أنها تعود في الأصل إلى تراكم حضاري يتجمع في لحظة المواجهة ويكون أن ينتج قرارات المقاتل التي تؤدي للانتصار.
أكثر من مرة يشير مبارك إلى الأسلوب الذي أنتجه أحد قادة التشكيلات بعد أن أنهى مهمته القتالية ونفدت ذخيرته كلها هو وكل من معه من زملائه ثم واجه تشكيلا مفاجئا من الطيارين الإسرائيليين… فكان أن ابتكر نوعا فريدا من المناورة أوحى للعدو أنه بكامل قدرته ما أدى إلى فرار الآخرين. مثل هذه القدرة التي تم ابتكارها في لحظة وأصبحت بعد ذلك خبرة يثبت مبارك أنها نتاج تراكم معرفي يميز هذا المقاتل عن غيره من مقاتلي العدو أو غيره.
3- لم يذهب المصريون إلى حرب أكتوبر فجأة، كما أنهم لم يكونوا قادرين عليها في وقت قصير… ولم تكن التدريبات وحدها كافية لاكتساب المهارات ونمو القدرات… وكان المقاتلون بحاجة إلى أن يواجهوا الطيارين الإسرائيليين ليعرفوهم قبل أن يقاتلوهم في معركة الثأر. ومن هنا تبدو في المذكرات أهمية وفلسفة حرب الاستنزاف التي يشرح مبارك مبررها التكتيكي بطريقة لم تكتب من قبل، ويصفها بأنها «جامعة» كان لا بد من الالتحاق بها قبل التقدم إلى نصر أكتوبر.
4- إن مشاركة أكثر من مئتي طائرة في أولى طلعات الضربة الجوية في الساعة الثانية وخمس دقائق يوم 6 أكتوبر لم يكن سوى قمة جبل الجليد… وحتى يسيطر المقاتل على عنان السماء وهو في مواجهة خصمه فإن عشرات من التفاصيل المعقدة على الأرض، وبين السماء والأرض، لا بد أن تكون قد تمت… بدءا من إعادة بناء المطارات وتوزيعها وحمايتها وطريقة التجهيز الفني للطائرات وإعادة تطويرها وتحديثها وتدريب الأطقم المعاونة..ومن أهمية هذه المذكرات أنها تشرح ذلك تفصيلا.
لقد أعلى مبارك في مذكراته قيمة «الفريق» لا «الفرد»، وهنا تتجلى قيمته في الانزواء كقائد تاريخي للقوات الجوية حين طوى دوره بين أدوار جميع أفراد وقيادات سلاح الجو، وحين اهتم بأن يوزع كل فصول كتابه ومرويته على جميع أفرع وأنساق القوات الجوية. في أحد أهم الفصول يذكر تفصيلا دور كل من المقاتلات، والقاذفات، والهليكوبتر، وعمليات الاستطلاع والنقل والاتصال والإبرار والأطقم الفنية.
5- لأول مرة يذكر مبارك تفاصيل الدور الذي قام به علميا في مرحلة توليه لإدارة الكلية الجوية… ويوثق ما أنتجه الفكر العسكري العلمي المصري خلال السنوات الست ظهيرا للضربة الجوية وفي الطريق إليها. وعلى الرغم من أنه اهتم في مواضع مختلفة من تلك المذكرات بانتقاد الفكر العسكري القديم والبالي الذي أدى إلى هزيمة 1967 فإنه يدهش قارئه بذكر فائدة إعادة إحياء أفكار عسكرية قديمة وتوظيفها في ضوء الإمكانات المحدودة لتحقيق أهداف جديدة.
مثال ذلك استحياء الدفاع الجوي بأسلوب البالون ودراسة ذلك في الكلية الجوية.
6- يروي مبارك إسهامه في خطة الخداع الاستراتيجي، ومفاجأة الحرب، وبقدر أهمية تلك التفاصيل… فإن التحليل العلمي في حاجة إلى أن يستفيد مما يرويه مبارك وغيره من القادة العسكريين حول تلك الخطة وعملية التمويه القومية التي شاركت فيها مصر كلها ـ كما يقول مبارك ـ وليس الجيش وحده… لفهم طبيعة هذا المكون في الثقافة المصرية وتأثير المناوره على سلوك الأفراد والشعب برمته ومؤسسته العسكرية في لحظات بعينها، وأثناء مواجهة خصم ما.
وبخلاف ذلك، وغيره كثير، تكمن أهمية هذه المذكرات، حول القائد والقوات، في أنها تؤرخ للحظة التي عُنيت بها، وتكشف ما غاب بمرور السنوات، وتميط اللثام عن أسرار لم تعلن من قبل… وفي ذات الوقت تمثل وسيلة إضافية لفهم شخصية صاحبها، ومنهجه السياسي، والبعدين الوطني والقومي في أفكاره خلال سنوات الحرب وما تلا ذلك وقبل أن يكون رئيسا… وكيف يمكن أن يفسر هذا سياق مواقفه وسياساته بعد أن أصبح رئيسا.
وبقدر ما تكشف المذكرات الأولى لحسني مبارك طريقة تفكيره، بقدر ما تطرح التساؤلات حول السنوات الثلاثين التي حكم فيها مصر… ومن ثم التحديات التي واجهها، وكيف تعامل معها، وإلى أي مدى استعان بالأساليب التي التزم بها وفرضها وطبقها في السنوات الست من 1967 إلى 1973… وما الذي يجده القائد العسكري المنتصر في الحياة المدنية عندما ينتقل إليها، وتمكنه أو لا تمكنه وقائع وملابسات مختلفة من تحقيق أهدافه.
حين وقعت بين يدي هذه الوثيقة بالغة الأهمية، أدركت ما هو حجم هذا السبق التاريخي، وقيمته، وتأثيره… والأفق التي يفتحها، والمعلومات التي يوفرها، والمعاني التي يضيفها. وبقدر ما تمثله من حيث كونها عملا علميا وتاريخيا تعني به اهتمامات مختلفة لأنواع وفئات متباينة من القراء… فإنها تعتبر إنصافا رتبته الأقدار لقائد مصري عظيم، كان أن تسببت تعقيدات السياسة في الطعن في مكانته العسكرية… وقيمة ما حققه في نصر أكتوبر المجيد.
هذا الإنصاف الذي قدمته الصدفة من أجل سيرة رجل… يمثل إنصافا أعظم أهمية للحقيقة وللتاريخ وللأجيال التي لم تعرف الكثير عن صاحب المذكرات، كما لم تعرف سوى النادر عن جيله وقيمته في مسيرة مصر.
المصدر “الوطن المصرية”
قم بكتابة اول تعليق