خليل حيدر: في رحيل جاسم القطامي

فقدت الكويت برحيل الشخصية الوطنية جاسم عبدالعزيز القطامي رمزاً سياسياً اجتماعيا انسانيا رفيعاً، فقد كان من بناة الحياة الديموقراطية وارساء مؤسسات المجتمع المدني، ومن دعاة تطوير المجتمع الكويتي وتحديثه منذ بداية حياته العامة.
كان «أبو محمد» رجلاً يجد فيه كل محافظ تقليدي وتقدمي حداثي بعض ما يريد، ورغم انه بدأ بالتمرد على «أوامر الدولة» عندما كان مديرا للشرطة 1956 الا انه كان من ابرز المساهمين في بناء الدولة ودعمها، ورغم انه كان في صميم الحركة القومية داخل الكويت وخارجها، الا انه ادرك فيما بعد ثغراتها، وامتنع عن مسايرة اندفاعاتها العقائدية بعد 1967، وانتبه الى خطورة دور المؤسسات في تثبيت الاهداف الوطنية والقومية، فبذل دعمه في تأسيس مركز دراسات الوحدة العربية، ودعا الى تعميق وتحديث اهداف هذه الوحدة، بما يتماشى مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمفاهيم السياسية المعاصرة.
ان شخصية بأهمية الراحل جاسم القطامي، بما له من مساهمات وادوار وتاريخ واهتمامات، بحاجة ماسة الى لجنة تجمع كل ما يتعلق به وكل ذكريات رفاقه ومعاصريه، ومراجعة الصحف ومحاضر مجلس الامة، وغير ذلك.
وقد لفت نظري بعض ما تحتويه اعداد «مجلة البعثة»، التي بدأ صدورها ابتداء من 1946 عن بيت الكويت بمصر، ورافق صدورها بدايات دراسة ونشاط «بومحمد»، حيث نرى في بعض ما فيها من نبذ ومقالات، ملامح ظلت مستمرة نامية في شخصية جاسم القطامي.
فمن الاخبار المنشورة عام 1951 ما يلي:
«حاز الزميل جاسم عبدالعزيز القطامي بعض الميداليات الذهبية في بطولة «جامعة فؤاد الاول» لألعاب القوى، و«البعثة» تهنئ الزميل البطل بهذا الفوز الباهر، وترجو له دوام التقدم والنجاح».
وأضافت المجلة: «لما فاز الزميل بألعاب القوى، اخذ الطلاب والاساتذة يهتفون له بعدة هتافات منها «فلتحيا الكويت» و«فليحيا بطل الكويت». (العدد4، السنة5، ابريل 1951، ص150).
هل كانت هذه بدايات اهتمامه بالرياضة والاندية؟
عندما كان يدرس في «كلية البوليس الملكية» بالقاهرة، وهو المجال الذي عمل فيه بعد عودته الى الكويت كما هو معروف، كتب عام 1950 مقالا بعنوان «البوليس»، دعا فيه «البوليس الكويتي» الى الاهتمام بتطوير نفسه وادواته وخدماته، لما تستدعيه «تطور الحياة الاجتماعية وكثرة انتشار المخترعات الحديثة». الا انه انتقد بعض تصرفات الشرطة، حيث كتب:
«لاحظت حين زرت الكويت في الصيف الماضي أن من الانتقادات التي يوجهها الجمهور الى رجل البوليس خصوصا الشبان منهم انهم يؤدون واجبهم في شيء من الزهو والغطرسة ويبالغون كثيرا في اظهار سلطتهم، خصوصا في الاعياد العامة، وقد يكون لهذا النقد ما يبرره، ونصيحتي الخالصة لرجال البوليس ان يشعروا ان واجبهم يحتم عليهم ان يكونوا بعيدين كل البعد عن الغطرسة والغرور، وان يؤدوا واجبهم بتواضع جم فاهمين ان السلطة التي في ايديهم وضعت اصلا لحماية الجمهور لا لمصلحة البوليس، فحسن معاملة الجمهور والتحبب اليه والعمل على اكتساب ثقته واخلاصه يساعد رجل البوليس على المضي في عمله على خير ما يرام».
(العدد5، السنة الرابعة، مايو 1950، ص183)
ودخل جاسم القطامي في مساجلة مع الكاتب الكويتي المعروف عبدالله احمد حسين، الذي بدأت كتاباته تظهر آنذاك في نفس المجلة. ودار النقاش حول تعليم الفتاة وحدوده، فكان الاستاذ عبدالله محافظا متوجسا بعض الشيء على الفتاة الكويتية في اجواء القاهرة التحررية، فـ«الحياة الزاخرة هناك هي الداء الذي ادعو الى ان تأخذ الفتاة الكويتية الحصانة ضده».
وكان القطامي اقل تحفظا لان الفتيات الكويتيات متعلمات، وقد اطلعن وقرأن الكثير عن الحياة المصرية في الجرائد والمجلات، او من احاديث مدرساتهن المصريات او من الكتب «كما ان اغلب العائلات الكويتية قد بدأت تربي بناتها تربية عصرية وان لم تكن متطرفة، ولا اغلو اذا قلت ان كثيرات منهن قد اشتركت في عدد كبير من المجلات المصرية ويعرفن الكثير عن مصر بل واكثر من بعض الشباب الكويتي». كما رفض القطامي الحد من تعليم الفتيات والاقتصار على المجالات النسوية، وطالب بفتح ابواب التخصصات الرفيعة امامهن، فنحن كما قال، «في حاجة الى طبيبات وممرضات يتخصصن في الامراض النسائية لينقذن حياة الآلاف من النساء الكويتيات اللاتي يفضلن الموت على ان يدعن الطبيب يفحصهن». (فبراير 1948، العدد2، السنة2).
وكتب عام 1948 مقالا بعنوان «زواج بحار» ينتقد فيه عدم رؤية الخطيب للفتاة التي يخطبها وكانت هذه العادة كما في مجتمعات اسلامية كثيرة، موجودة في المجتمع الكويتي الذي كانت تختلط فيه العادات القديمة بالجديدة. وكان منع رؤية الرجل للفتاة قبل الزواج، ربما وسيلة اجتماعية لتزويج الفتاة مهما كان مستوى جمالها وعيوبها، لان المجتمع آنذاك لم يكن يتحمل وجود فتاة غير متزوجة في سن الزواج. وكان هذا الاجراء فيما يبدو شائعا بين الطبقات الفقيرة بالذات. اما مقال جاسم القطامي فقد رسم صورة درامية مأساوية فقال: «وبعد معركة.. استطاع الشاب ان يكشف عن وجه زوجته فرأى – ويالقبح ما رأى – فتاة افقدها الجدري احدى عينيها بعد ان شوه وجهها، ذات اسنان كأنياب الاسد او هي اشد، فما كان من الشاب الا ان احس بقشعريرة مؤلمة من هول هذه الصدمة». (سبتمبر 1948، العدد 8، السنة 2).
وفي مقال «يوميات بحار»، انتقد القطامي جشع بعض ربابنة الغوض ممن يصادرون بيت البحار عندما تتراكم عليه الديون: «وحين تسأل او تحتج يقولون لك انه القانون؟ اي قانون هذا الذي ينص على تشريد مثل هذه الاسرة المسكينة.. اين الانسانية، اين الضمير؟» (اكتوبر 1948، ع9، السنة2، ص202). لم يخل اول دخول جاسم القطامي مصر من المشاكل، فقد كان من محبي اللهجة المصرية، ويتقن التعبير بها حتى لا يشك السامع في انه من اهل مصر.
وجاء في مجلة البعثة ان الفقيد كان يتقن اللهجة المصرية بانواعها الشمالية والجنوبية، ويقلد ابن البلد والعمدة، وفي احدى المرات دبت الشكوك حول هويته في قلب موظف الجوازات بالقاهرة، فظنه بعض المصريين الهاربين من البلاد هربا من القانون، فأمر الضابط بادخاله الى غرفة التحقيق، ولم يفرج عنه الا بعد فحص وتحقيق! وكان ذلك عند قدومه الى مصر لاول مرة، للعام الدراسي 1948/1947، ملتحقا بالمدرسة الثانوية، كالكثير من الطلبة الكويتيين الذين رافقوه في تلك السنة.
لقد فارق بومحمد الحياة وسط احداث متلاحقة وتطورات عربية لم يكن احد يتصورها الى ما قبل عام او عامين، وقد عاصر ثورة 1952 في مصر وعايش على مدى ستين عاما آمال وآلام العالم العربي، وكم هو مؤلم ان تبدأ مع رحيلك كل هذه الاحداث، بعد طول انتظار.

خليل علي حيدر

المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.