عبدالله بشارة: في ذكرى وفاته..عبدالناصر ومطبات الزمن

في أسبوع واحد تمر ذكرى وفاة الرئيس جمال عبدالناصر واغتيال الرئيس السادات، يفصل بينهما أكثر من عشر سنوات في رزنامة السنين وأسبوع في رزنامة الأيام.
وغطت دائرة الاعلام المصرية قيام رجل مصر القوي الفريق السيسي الزيارة التي قام بها برفقة عائلة الفقيد الى ضريح زعيم مصر الذي أتعبته الحروب وأنهت حياته – وهو لازال في بداية الخمسينيات بسبب أثقال الهزيمة البائسة في حرب 1967.
يظل المرحوم عبدالناصر عملاقا في نزاهته، ومثيرا في زعامته، وآسرا في جاذبيته، وصادقا في وطنيته، وقاسيا في خصومته، وواسعا في طموحاته، وحالما في مشروعاته، ومع هذا الكم المتضخم في التكوين الجسماني لا مفر من الهموم والألم والجروح مهما سعى الانسان للتخفيف من هذه الأثقال.
ولأنه زعيم بارز، يقف تاريخ مصر متسائلا عن مجرى غريب في حياة هذا الزعيم الكبير، كان من ضرورات الزعامة ان يتوقف عند كل قرار حاسم اتخذه في مسعاه لتأكيد زعامته وتعرية خصومه من أجل التقييم والتحليل، بدلا من السير وباندفاع نحو الحافة القاتلة.
وبعد مرور هذه السنوات التي مرت بها مصر وعاشت فيها بتحولات جذرية وتبدلات أدت الى نهاية عصر حسني مبارك وبعدها حكم الاخوان، ربما تنكشف الحقائق بعد ازالة الستار عن الأرشيف الناصري الذي يحمل أسرار الحكم المطلق ويكشف عن مبررات التحالف مع المجموعة البعثية الجاهلة التي استولت على السلطة في سورية في فبراير 1966، وأبعدت الفريق أمين الحافظ، وحكم القيادة القومية في بغداد، ودشنت فصل المراهقة الذي أدى الى دمار المشروع الناصري والمنظومة الناصرية بكل عناصرها وخيوطها كحصيلة لهزيمة يوليو 1967.
لا زالت الأسئلة تثار عن مسببات الرعاية الناصرية لذلك النظام النزق والمغامر الذي جاء بنظرية خطرة في مواجهة اسرائيل، محشوة بمجموعة من الفبركات الانشائية عمادها الجيش العقائدي، والصمود والتصدي، والممانعة والمقاومة، وحرب تحرير الشعبية، ودول المعاندة ودول المهادنة، مع اصرار على تحريك الهدوء على الجبهة السورية الاسرائيلية، بانطلاق متعمد لمجموعات الكوماندوس الفلسطينيين كطلائع للجيش العقائدي.
هذه الاستراتيجية الخطرة جاءت بمعزل عن التنسيق مع الرئيس عبدالناصر، وتزامنت مع التحرش بكل من العراق والاردن، لمضايقة الحكم فيهما.
وقد اشتكى العراق من تصرفات النظام السوري للرئيس عبدالناصر، الذي كان يوصي بالحوار المباشر وظل عازفا عن القيام بمساعي التهدئة.
كان النظام السوري أغلق أنبوب النفط العراقي عبر سورية، مع ان الغريمين العراقي والسوري يرتبطان مع الرئيس المصري بعلاقات مميزة.
ويذكر الدكتور عدنان الباجهجي وزير خارجية العراق في الفترة من 1965-1967 في مذكراته التي نشرها في لندن «في عين الاعصار» بأن الرئيس عبدالناصر كان يكره الفريق أمين الحافظ والمجموعة التي معه، وارتاح للتغيير في سورية، وبدأ مع النظام الجديد في علاقات خاصة، كما لاحظ الباجهجي بأن الرئيس المصري لا يرغب بالضغط على نظام سورية مع الحرص على بقاء النظام ومنحه رعاية خاصة.
ورغم التصرفات الخرقاء والحمقاء التي تميز بها والتي مارسها النظام السوري، وتصاعد التوتر على الجبهة السورية – الاسرائيلية، وقع الرئيس عبدالناصر اتفاقية دفاع مشترك تأخذ مصر كشريك في الحفاظ على النظام السوري، لكن النظام السوري لم يسمح لأي دور مصري يقلل من حماسه أو يؤثر في اندفاعه بل كان سعيدا في جر مصر الى دبلوماسية المواجهة والمغامرة، دون السماح للوجود العسكري المصري في القيادة العسكرية السورية، كما فعل الملك حسين عندما وقع اتفاقية الدفاع المشترك مع الرئيس المصري.
وعلى الرغم من الرعاية السوفيتية الخاصة للنظام السوري فان الاتحاد السوفيتي امتنع عن التصويت على قرار مجلس الأمن يدين النظام السوري في اثارة الاستفزازات، بعد ان اشتكت اسرائيل الى مجلس الأمن، وكانت تقارير مراقبي الهدنة دامغة للسياسة السورية بحيث لم يكن هناك مجال لاستعمال الفيتو من قبل موسكو ضد القرار.
وتتوالى المغامرات ويتعالى التوتر الى درجة الغليان بعد ان أسقطت اسرائيل في معركة جوية في شهر ابريل 1967، ست طائرات ميج سورية، الأمر الذي أربك الحسابات السوفيتية وسط أجواء الذعر على النظام مما أدى الى اتهامات موسكو لاسرائيل بالحشود على الحدود السورية تحضيرا للاعتداء عليها.
ويدون التاريخ الأحداث المتعاقبة حيث ذهب الفريق محمد فوزي القائد العسكري المصري، ليقدم تقريرا يتعارض مع الادعاءات السورية، بالاضافة الى تقارير مراقبة الهدنة الدولية في نفي الحشود على حدود سورية.
وتتابعت الأحداث بتحريك الجيش المصري مع الطلب المفاجئ بسحب القوات الدولية من الحدود المصرية الاسرائيلية في خطوات دراماتيكية لا وقت فيها لالتقاط الأنفس لممارسة التفكير السليم.
وتدور كل هذه الأحداث دون ان يخرج صوت العقل العربي التاريخي ليحذر من الاندفاع والاستسلام لغريزة التهور Impulsive steps، وتتابع الأمم المتحدة خطورة الوضع مع اتفاق على ذهاب السكرتير العام الى القاهرة لنزع الفتيل، لكن الرئيس عبدالناصر لم ينتظر وصول يوثانت – السكرتير العام للأمم المتحدة، في اعلانه اغلاق المضيق في وجه الملاحة الاسرائيلية.
وسيبقى السؤال الدائم عن مبررات التسرع ومسببات وضع السكرتير العام في الموقف الحرج، وعندما يصل السكرتير العام الى القاهرة لا يجد شيئا جوهريا يتفاوض عليه، والسؤال الآخر الذي يظل ملحا في سجلات الشعب المصري وفي ضمير رئاسته يتعلق بتجاهل القيادة المصرية للاتفاق الاسرائيلي-الأمريكي الذي جاء بعد مباحثات ثنائية تتعهد فيه واشنطن بابقاء المضيق مفتوحا لاسرائيل، وتبارك خطواتها في فتح المضيق بالقوة اذا ما تجاهلت مصر هذا الاتفاق الذي ظل مسجلا في مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما أعلن المندوب الأمريكي جون كابوت لودج، نص الاتفاق، وترد عليه وزيرة خارجية اسرائيل جولدا مائير في قبولها النص مع قراءتها لمعاني الالتزام.
كان ذلك في أول مارس 1957، كوثيقة تنسحب بموجبها اسرائيل من غزة ومن سيناء، بعد ان كانت ترفض الانسحاب بدون عقد صلح مع مصر، الا ان الولايات المتحدة فرضت عليها الانسحاب مقابل ذلك التعهد، وبسبب الولايات المتحدة، خسرت اسرائيل سياسيا بعد ان فازت عسكريا في سيناء.
هل معقول ان أجهزة مصر لا تعلم بهذا الالتزام الأمريكي، وهو اتفاق علني في الأمم المتحدة، وهل معقول ان واحداً مثل محمود رياض، وزير خارجية مصر، لا علم له بذلك، وهل معقول ان الرئيس المصري بكل حذره ومطالعاته لا يتوقف عند ذلك الاتفاق.
لم تغفر اسرائيل للولايات المتحدة أنها حرمتها من المكاسب السياسية من غزوها لجزيرة سيناء في أكتوبر 1956، بالاتفاق الثلاثي الفرنسي-البريطاني-الاسرائيلي، ولن تسمح لواشنطن بتكرار ذلك في عام 1967.
كارثة 1967 لم يقم بها أشباح، وانما بشر بعضهم لم يقرأ الحقائق، وبعضهم يمتهن المغامرات في القيادة السورية التي لم تحزن للهزيمة والاحتلال وفرحت ببقاء النظام.
ولم تقدم هذه القيادة، المقاومة المتوقع منها، ولم تشارك في قمة الخرطوم «قمة الانقاذ» بل جاء وزير خارجيتها – ابراهيم ماخوس – ليبيع شعارات المقاومة واكتفى بلقاءات مع عبدالناصر ومجموعة الصمود، ولم يكن للنظام السوري دور في الاجتماع الاستثنائي للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي استمر من منتصف يونيو 1967 حتى يوليو 1967 وانتهى بالفشل بعد انقسام الأمم المتحدة وعجزها عن تأمين الأغلبية لأي مشروع.
الدور السوري في توريط الرئيس عبدالناصر لم تتم تغطيته بما يستحق في ممارسة الخداع والتضليل، وقد كتب عنه الكثيرون في أوروبا وأمريكا، ومن أبرزهم المستر أنتوني نتنج Anthony Nutting، الوزير البريطاني الذي استقال احتجاجا على العدوان الثلاثي، وكتب مجلدا ضخما عن حياة عبدالناصر اسماه Nasser ويصف الاتفاق الناصري السوري الذي وقع في نوفمبر 1966 بالالتزام القاتل Fatal Commitment.
وفي الكتاب صفحة 398 يقول المؤلف وأنقل عنه مع الترجمة [قابلت عبدالناصر قبل ساعات من بداية حرب الأيام الستة، ووجدته يعيش في أجواء عام 1956، وكان على قناعة بأن اسرائيل لن تقوم بالحرب على جبهتين خوفا من قوة سلاح الطيران المصري المزود بالأسلحة الروسية، وأنها لن تجرؤ بالمغامرة بدون دعم غربي على الأقل في تأمين الغطاء الجوي كما فعلت بريطانيا في عام 1956، ولذلك فانه قادر على تعطيل خطط اسرائيل العدوانية لأنها تعرف مصر ستقف مع سورية اذا تم الاعتداء عليها، ويعتقد الرئيس بأنه اذا جازف الغرب في دعم اسرائيل فان روسيا لن تتردد في المشاركة ضد الغرب، ويعني ذلك ان الوضع سيتطور الى حرب عالمية] ويضيف الكتاب [بأن هذه القناعة هي مكمن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الرئيس] في حقائق الحياة ليس الرئيس عبدالناصر وحده الذي وجد نفسه في مطبات الزمن فان السجل الانساني يدوّن بأن الكثيرين من العمالقة تبرز غريزة الضعف في التكوين النفسي عند الأزمات، ويقال في أمثال التاريخ بأن هناك عمالقة بأرجل من خشب، بمعنى كل انسان له مواقع ضعف تؤثر في مسيرته.
منذ كارثة 1967 دخل الرئيس عبدالناصر الموت السياسي الاكلينيكي، على الرغم من ان دفنه تم في 28 من سبتمبر 1970، وفي حياته انجازات ودراماتيكيات وفيها اختراقات ونكسات، ومع ذلك يظل زعيما.

بقلم: عبدالله بشارة

المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.