تنحو مرحلة الانفتاح بين ايران والولايات المتحدة الأميركية إلى البدء بعملية تفاوض سرية تؤول إلى بلورة مشروع اتفاق يقوم على تنازل ايران عن مشروعها النووي مقابل توطيد نفوذها في المنطقة, مع تعهد أميركي بمباشرة العمل على تفكيك بعض الدول العربية القوية لتسهيل تكريس النفوذ الإيراني, والعمل على تفريغ المنطقة برمتها من السلاح النووي, بما فيها اسرائيل.
ولم يكن غريباً تسرب معلومات تتحدث عن تقديم واشنطن ضمانات أكيدة لإسرائيل بأن ترسانتها النووية لن تكون مشمولة بالكامل, وانه يمكن لها الاحتفاظ بجزء منها سراً.
ومع هذا, فقد أطل علينا رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو ليتابع سياسة كل سابقيه في رمي القنابل الدخانية من أجل المزيد من التعمية وخلط الحابل بالنابل, حتى يصبح المحلل السياسي أشبه بقارئ الفنجان او الضارب في الرمل, ولسوء الحظ فإن عالمنا العربي ما زال يعج بهذا النسل من المحللين السياسيين.
بدأ نتانياهو بوصف الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني بأنه “ذئب في ثوب حمل”, لكنه بعد ثلاثة أيام, وحيال “عظمة الشعب الإيراني”, كما قال, أعلن عن استعداده ل¯ “التفكير بلقاء روحاني” رغم انه لم يقدم إلى اميركا, والكلام ما زال لنتانياهو, سوى مشروع “اتفاق مزيف”, وأن انفتاحه على واشنطن ليس إلا “كلاماً فارغاً لا معنى له”.
هل يحاول نتانياهو, بدخان التعمية الذي يطلقه, إفشال الانفتاح الإيراني الأميركي قبل ان يتحرك قطاره؟ أم ان الأكمة تخفي شيئاً آخر وراءها؟
إذا اتخذنا القياس منهاجاً, فإن اسرائيل أفشلت المفاوضات مع الفلسطينيين, بل إنها دأبت على إفشال كل مساعي السلام في المنطقة ككل, وفي ذلك تتجوهر معضلتها الوجودية. فإسرائيل تدرك أن أمنها الحقيقي العميق لا يتحقق إلا عبر اتفاقيات سلام مع جيرانها العرب وفي مقدمهم الفلسطينيون, ينبثق عنها اعتراف عربي نهائي بوجودها, لكنها, مع ذلك, تظل أسيرة شيطانها اليهودي الذي يوسوس لها أن السلام مع أعدائها بداية نهايتها وأنه لا يعدو كونه مسألة نظرية, وأن أمنها الحقيقي لا يتحقق الا بالقوة الساحقة وبالحروب الماحقة التي تتيح لها فرض الشروط تلو الشروط. لذلك ترى نفسها, منذ أن أعلنت عن وجودها, دولة امتهنت السير على شفير الحرب, وإلا ما معنى التناقض الكامن في صلب وجودها القائم على أنقاض شعب يواصل وجوده وهي تعترف به, وبحقه في تقرير مصيره في اتفاقيات اوسلو, ومع ذلك تدأب على إفشال أي مفاوضات جدية معه؟
اسرائيل التي فرضت فرضا على العرب والفلسطينيين منذ العام 1948 لم تسع الى السلام يوما, كانت دوما مشغولة بالتهيؤ للحرب وتكريس تفوقها العسكري بإدخال أسلحة الدمار الشامل الى المنطقة.
إن ما تقوم به اسرائيل حالياً في المنطقة هو متابعة ما كان حكامها يقومون به من إطلاق القنابل الدخانية للتعتيم على خططها الفعلية, وهي الآن بصدد محاولة إعادة احياء التحالف الفارسي – الاسرائيلي التاريخي برعاية اميركية وإسعاف التحالف الجديد بين جماعة الإخوان المسلمين وتل ابيب, وفي التحالفين فإن المستهدف هو العالم العربي الغارق – أو المغرَّق – بالفتن الطائفية والقبلية والمذهبية والعرقية…
لم تكد اسرائيل تنهي سنوات العقد الثاني على إعلان وجودها حتى بدأت أصابعها تتسلل لتفجر ما تستطيع من “الساحات” العربية وتعمل على تفتيتها, فمنذ أوائل سبعينات القرن الماضي توالت “نماذج” المساعي الاسرائيلية لإثارة النعرات بين ابناء المجتمعات الواحدة, سواء في أحداث الاردن الدامية في العام 1970, أو في الحرب اللبنانية التي استمرت 17 عاما وأدت فيها دور اللاعب الاساسي عبر تقديم الدعم لبعض القوى والطوائف وتأليب بعضها ضد البعض الآخر, أو في الاجتياحات المتتالية لاعادة توازن لا يؤدي إلا لإطالة أمد الحرب وتوليد المزيد من الدمار في المناطق كافة وعلى جميع الصعد, والتأسيس لحروب لبنانية مستمرة نشهد بعض مفاعيلها اليوم.
إسرائيل ترفض أي مبادرة سلام عربية, سواء كانت برعاية الولايات المتحدة تحديداً أو الغرب عموماً, وهي لا تفتأ تعمل على تقويض استقرار الدول العربية بما فيها تلك التي عقدت معها معاهدات سلام, مرة عبر زرع الجواسيس ومرات بتقديم الدعم إلى جماعات مشبوهة. لذلك لم يكن غريباً أن تتعاطى مع كل المبادرات العربية من أجل نسفها, وفي المفاوضات الأخيرة مع الفلسطينيين فإنها عملت على افشالها قبل أن تنطلق, ولم تصغ إلى الولايات المتحدة الأميركية إنما استمرت في خلق الاعذار لنعيها قبل أن تبدأ.
الخراب في المنطقة العربية صناعة إسرائيلية بامتياز, وهذا ما علينا إدراكه والكف عن التلطي خلف أصابعنا, بل علينا التمعن جيداً في الإشارات الصادرة من دبابير تل أبيب وطهران وواشنطن, فكلها تعمل على احياء التحالف القديم الذي تمثل في التدخلات الايرانية بالشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية والتغطية الاسرائيلية عليها, أكان في البحرين حيث زرعت ايران خلاياها التخريبية في المملكة, وساعدتها في ذلك اسرائيل من خلال تأمين التغطية الإعلامية للعمليات التخريبية تحت ستار حقوق الانسان, أو عبر الاتصالات الاسرائيلية المستمرة مع الغرب والضغط على بعض دوله من اجل إعادة محمد مرسي إلى الحكم في مصر حيث شاهدنا كيف قدمت جماعة الاخوان كل السبل التي تحفظ امن اسرائيل, بما في ذلك تسهيل الاتصالات بين طهران وتل أبيب عبر القاهرة واللقاءات السرية بين الاسرائيليين والايرانيين التي تحدثت عنها بعض وسائل الاعلام الغربية فيما كانت الجماعات التخريبية تنشط في كل اتجاه من اجل المزيد من التخريب في العالم العربي.
علينا أن نوحد نظرتنا ونقر بأن دول الخليج العربية كانت طوال العقود المنصرمة هي المستهدفة, ولذلك كان موقف دول مجلس التعاون شرسا في التصدي للمحاولات الاسرائيلية والايرانية لزعزعة امن المنطقة, كي لا تتحول الى حقل تجارب وملعب لهاتين القوتين, وحتى لا يصبح العالم العربي في نهاية المطاف مجرد حديقة خلفية لكل من ايران واسرائيل… برعاية أميركية!
الدوران الايراني والاسرائيلي في المنطقة ليس نتيجة التقاء مصالح كما يعتقد البعض, انما هو تعبير عن مصلحة واحدة لكن بلغتين مختلفتين, ولذا ليس امام دول مجلس التعاون والدول العربية كافة إلا أن تزداد تضامنا وشراسة في التصدي لمحاولات التخريب التي تتعرض لها, أكان على الجبهة مع ايران أم على الجبهة الاسرائيلية, فكلاهما تسعى الى تفكيك العالم العربي, ولن تصغيا إلى صوت السلام أبداً.
أحمد الجارالله
المصدر جريدة السياسة
قم بكتابة اول تعليق