فقدت الكويت في الأسبوع الماضي شخصيتين بارزتين من أعلام العمل الوطني، كان لهما دور مرموق في تطوُّر العمل الشعبي المنظم في النصف الثاني من القرن الماضي. الأول هو جاسم عبدالعزيز القطامي، والثاني عبدالمحسن أحمد الدويسان.. كل منهما جسَّد بصدق، قولا وفعلا، صورة الطهارة الوطنية في العمل السياسي، وقد أشاد من تناول سيرتهما بما كان يتمتعان به من نقاء وصدق منزه عن الهوى والمآرب الذاتية والتفاني في خدمة الوطن والشعب وانكار الذات وتقبُّل التضحيات بنفس مؤمنة. مواقفهما تميزت بالثبات على المبدأ والتمسك به، بالصمود وبالرؤية الواضحة، لم يتأثرا بأي اغراء، منصبا كان أو منفعة، ولم يخضعا لأي ضغط أو تهديد، مهما تطلب من تضحيات، حتى لو مس حياتهما الشخصية.
تناول الكثير ممن تطرّقوا الى سيرة المناضل جاسم القطامي ما كان يتحلى به من جرأة وشجاعة واقتران القول بالفعل والثبات على المبدأ والمواقف الصلبة، انطلاقا من ايمان بحق الشعب. وأرى أن أهم وأبرز دور لجاسم القطامي، هو ما قام به مع رفيقه الدكتور أحمد الخطيب في قيادة التحول في نمط العمل الوطني في ساحة الكويت والخليج من النمط التقليدي، الذي يرتكز على النخب الاجتماعية، الى رحاب العمل الشعبي الأوسع.
نضال عربي
في النصف الأول من القرن العشرين كان العمل السياسي لتطوير أوضاع البلد يعتمد على نشاط النخب الاجتماعية، بقيادة التجار والوجهاء،
وهو النمط الذي ساد في العشرينات، وطالب بإيجاد مجلس الشورى، ثم تطوَّر في الثلاثينات، مطالبا بمجلس تشريعي منتخب بصلاحية تنفيذية، وتمثل ذلك في حركة المجلس لعام 1938.
في الخمسينات من القرن الماضي برزت تيارات جديدة في الساحة العربية، متأثرة بالتطورات في الساحة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، والكساد الاقتصادي عام 1929، إذ تميَّزت هذه المرحلة بظهور التيارات الفكرية الراديكالية في السياسة والاقتصاد، وبروز الحركات الاشتراكية والعمالية في الدول الصناعية، وقد تأثرت الساحة العربية بهذه التيارات، وانعكست ببروز الحركات الراديكالية القومية واليسارية بتنظيمات لها توجهات اشتراكية وماركسية، وارتفعت المطالب بمواجهة الصهيونية، بعد نكبة فلسطين، وخسارة العرب حرب 1948، وبالتحرير من الاستعمار، وبأنظمة شعبية جمهورية بديلا عن الأنظمة الملكية، وتعزز هذا التوجه بعد ثورة يوليو في مصر، بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر، وأصبح تعبير الناصريين يطلق على الحركات القومية واليسارية المطالبة بالتحرير والوحدة والعدالة الاجتماعية.
في هذه الفترة، بدأت عودة الطلاب الكويتيين الدارسين في الخارج من حملة الشهادات الجامعية، ومنهم جاسم القطامي وأحمد الخطيب اللذان انخرطا في هذا التيار الجديد بفكره وأهدافه، وبما كان يتميَّز به الاثنان من كاريزما شخصية وتجربة واحتكاك بالتيارات الفكرية في مصر ولبنان، وبالمناخ السائد في الأقطار العربية، ومن قدرة ذاتية متفردة، تمكنا من إحداث التحوُّل في العمل السياسي من النمط التقليدي، المعتمد على النخب الاجتماعية إلى العمل الشعبي والنزول إلى القواعد الشعبية، فأسسا فرع حركة القوميين العرب في الكويت، والتي كان د. أحمد الخطيب من مؤسسيها منذ أن كان طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت، وانخراطه في جمعية العروة الوثقى. وبفضل نضالهما، انتقل العمل الوطني من قيادة النخب الاجتماعية إلى نخب شعبية تحمل فكرا راديكاليا يطالب بتحولات جذرية في السياسة والاقتصاد.
وقد تضافرت ظروف كثيرة لتساهم في بروز هذا التيار، منها اشتداد حركة التحرر الوطني في العالم الثالث الذي كانت معظم أقطاره تخضع لهيمنة الاستعمار، ومنها أقطار عربية.
واتسع التنظيم السياسي الذي قاده الخطيب والقطامي، كما اتسع التأييد له في الساحة، مع ظهور النوادي والجمعيات الثقافية والرياضية، وبرزت أنشطته في التجمعات والتظاهرات الشعبية، تأييداً للشعوب العربية، منها ثورة مصر، ومؤازرتها لمواجهة العدوان الثلاثي – إسرائيل وبريطانيا وفرنسا – فيما عُرف بحرب السويس، وكذلك مؤازرة ثورة الجزائر، إلى جانب مساندة الكفاح الفلسطيني في مواجهة الغزو الصهيوني.
وعلى المستوى المحلي الكويتي، رفعت الحركة الشعبية مطالب وطنية ديموقراطية عبَّر عنها جاسم القطامي، في ما عرف بتجمع ثانوية الشويخ في فبراير 1959 احتفالاً بعيد وحدة مصر وسوريا، الذي ألقى فيه القطامي الخطاب الشهير قائلا «إنه آن الأوان لحكم شعبي ديموقراطي يكون للشعب فيه دستوره ووزراؤه»، وهذه أول مرة يطرح فيها هذا المطلب بهذا الوضوح، وقد يعد ذلك أول غرسة لمطالب التحول الديموقراطي.
كما جاء في ذلك الخطاب ما يعبِّر عن التوجه القومي الوحدوي بقوله «آلا ليت علم الوحدة الحبيبة يرفرف عندنا كحمص وحماه»، وهو ما يعبِّر عن مجاراة مطالب الوحدة العربية.
وبسبب هذا الخطاب دفع القطامي ثمنا بقطع رزقه كمدير لشركة السينما الذي تولاه بعد استقالته من منصبه كمدير شرطة الكويت، رافضا التصدي لفض التظاهرات التي تحركت لمؤازرة
مصر في مواجهتها للغزو الثلاثي.
شعبية كاسحة
لم تتأثر مواقف القطامي بضغوط الحرمان، بل زاد ذلك في رصيده الشعبي، وزاد في نفوذ الحركة الشعبية، وقد لعبت الحركة الشعبية باتساعها في بلورة المطالب التي تحققت بعد ذلك، بتوافق الراحل الحكيم الشيخ عبدالله السالم الصباح للانتقال الجذري في تطوير نظام الحكم إلى نظام دستوري برلماني بإصدار دستور عام 1962، من قبل مجلس تأسيسي منتخب.
وفي تلك الفترة بعد الإعلان عن الدستور، اتسعت الحركة الشعبية أولاً، بإعادة الأندية والجمعيات الأهلية التي أغلقت بعد خطاب ثانوية الشويخ عام 1959، ثم بادرت الحركة الوطنية بإنشاء النقابات، وأهمها نقابة عمال النفط وعمال القطاع العام آنذاك، وقد استقطبت الحركة الوطنية الشعبية، بقيادة القطامي والخطيب، نفوذاً واسعا في القطاعات الشعبية، وانعكس ذلك في الانتخابات الأولى لمجلس الأمة عام 1963، حيث اكتسح مرشحوها الدوائر الانتخابية التي ترشحوا فيها، وحصل بعضهم، ومنهم القطامي والخطيب، على نسب عالية من الأصوات تجاوزت الـ 70 في المائة من أصوات الناخبين، وأحياناً فاقت الـ90 في المائة.
هذه الشعبية الواسعة التي حظي بها تيار القطامي والخطيب، هي التي أثارت مخاوف السلطة، من أن يؤدي ذلك إلى تقليص نفوذها، فقامت بإصدار القوانين الثلاثة المشهودة عام 1964، وهي قانون الصحافة وقانون الوظائف العامة وقانون الأندية والجمعيات، التي تحظر ممارسة أي نشاط سياسي وتقيد حرية الصحافة، مما أدَّى إلى استقالة كتلة النواب الوطنيين، ثم تزوير انتخابات 1967، خوفا من نجاح التحالف الانتخابي الواسع الذي خاض تلك الانتخابات.
دينامو شعبي
هذا ما أداه القطامي وأسهم به في تطوير العمل الوطني، من مطالب إصلاحية تقودها النخب الاجتماعية إلى عمل شعبي واسع، يعتمد على القواعد الشعبية، وهو النمط الذي ظل سائدا وتطور إلى الآن.
وإذا كان هذا دور الخطيب والقطامي في تحول نمط العمل السياسي، فهنالك أدوار لقيادات أسياسية كان لها دور في تشييد هذا البناء، ومنهم عبدالمحسن أحمد الدويسان، وسامي المنيس وآخرون كثر.
صحيح أن عبدالمحسن الدويسان كان بعيداً عن الأضواء، إلا أنه كان «الدينامو» المحرك على المستوى الشعبي، فقد كان، رحمه الله، طاقة جبارة في التنظيم، وصاحب أسلوب حاذق وجذاب في استقطاب المناصرين، ولعب دوراً مهماً وبارزاً في توسيع نطاق العمل الشعبي.
برز ذلك في إدارة الحملات الانتخابية بجهده وانضباطه وعمله المنظم، وإليه يعود فضل كبير في ما حصده التيار الوطني من مكاسب في الانتخابات. وكما كان القطامي والخطيب كان الدويسان وطنيا قومياً صلباً لم يتزعزع إيمانه، ولم تتبدل مواقفه، كانت نزعته الشعبية طاغية، ويميل دائماً إلى التركيز على العمل القاعدي وبقيت قناعاته هذه ثابتة إلى آخر أيامه.
كان كرفاقه – القطامي والخطيب والمنيس وآخرين كُثرٍ – مناضلاً وطنيا صلبا بإيمان صافٍ نقي كرَّس جهده وطاقته لخدمة وطنه وشعبه.
ما أحوجنا الى هذه النماذج الوضَّاءة، وما أحوج الكويت، وهي في أزماتها المتكررة، الى مثل هذه النماذج الوطنية الصلبة ذات الرؤية المستنيرة!
بقلم عبدالله النيباري
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق