كل من تابع احتفالية “مصر أم الدنيا… قد الدنيا” في الذكرى الـ 40 للعبور لم يبهر بعمل فني رائع فحسب, بل شهد عرضا لتاريخ شعب لم يسكت على الظلم يوما, بل كان دوما يتعالى على الانتماءات كافة في سبيل الانتماء الى الوطن. المسلم والمسيحي, العامل والفلاح, ورجل الاعمال والاستاذ والطبيب, تركوا كل شيء خلفهم في العام 1973 من اجل استرداد الارض ودحر المحتلين.
في احتفال هذا العام كانت مصر كما أحبها وأرادها أهلها, وكما اعتادها العرب جميعا. ليست على ذاك التجهم الذي رأيناه في المناسبة العام الماضي, حين طالعتنا وجوه كالحة عابسة تتصدر الاحتفال بنصر أكتوبر, حيث حضر قتلة قائد العبور الرئيس أنور السادات, وكأنه جيئ بهم لتكريس انتقام اسرائيل لهزيمتها قبل 39 عاما, وليعلنوا للمصريين والعرب ان من ينتصر على اسرائيل سيلاقي مصير الرئيس الراحل. لكن مصر التي لم ترض يوما السكوت على الظلم والاحتلال كانت لهم بالمرصاد, فمثلما انتصرت على المغول دحرت “الاخوان”, وكما كنست الاحتلال الاسرائيلي أحبطت خطط جماعة الافك والعمالة لافساد فرحة المصريين بالعبور من احتلال سيناء الى تحرير الوطن ككل.
رأينا في هذا الاحتفال وجوه أخيار مصر الذين يعبرون عنها وعن تنوعها, قادة اختارهم شعبهم ليكونوا رواد المرحلة الحالية. رأينا الوفاء في تلك الدموع المنهمرة على وجنتي جيهان السادات, وتلك المحبوسة في عيني عبدالفتاح السيسي, هذا الجندي الذي نذر نفسه لوطنه كعشرات الآلاف ممن استشهدوا أو اصيبوا في حرب أكتوبر ليعيدوا الى مصر عزتها وكرامتها.
هكذا كانت أرض الكنانة في الذكرى الاربعين لحرب أكتوبر, شامخة, منتصرة, فرحة, متعالية على الجراح, جامعة كعادتها بذاك الحضور المميز لعدد كبير من وزراء الدفاع العرب وكأنها تعيد إرسال الرسالة التي بعثتها الى العالم أجمع في العام 1973 بأن مصر هي البوابة الى الحرية والانتصار.
في الاوبريت رأينا صورة الحضارة المصرية على مدى سبعة آلاف عام, وليس صورة من نظروا الى العبور بعيون الاسرائيليين, هكسوس العصر الحديث الذين لم يصدقوا ان من دحر أجدادهم قبل آلاف السنين بعد قرن من الاحتلال لن يرضى ان يسلمهم هبة النيل مجانا, أو ان تسقط في فخ “الاخوان” كما سقطت بعض الدول العربية التي أدخلوا اليها مشروعهم التخريبي.
فها هي تصدت لهم و انتصرت مرة أخرى واستكملت بوحدة شعبها وقواتها المسلحة معركة التحرير ليس في سيناء وحدها, بل تحرير كل أراضيها من العدو المتربص طوال العقود الماضية, والمستعين بأدوات داخلية دأبت على تزيين صورتها بتاج الدين والدين منها براء.
السادس من أكتوبر هذا العام لم يكن يوما عاديا في تاريخ أرض الكنانة, ففيه تواجهت إرادة الحياة وإرادة التخريب والقتل والتدمير. تواجهت عزيمة شعب يتقن صناعة الحياة والتعالي على الجراح وعدم الاستسلام مع جماعات ظلامية سعت الى الثأر للهزيمة الاسرائيلية في العام 1973, ولقد شاهدنا انتصارا مصريا جديدا على الارهاب الاسود.
هذه الصورة رسمها بصدق وزير الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي في كلمته التي تحدث فيها بلسان العرب من المحيط الى الخليج, بلسان تلك الملايين التي هبت لاسقاط عصابة السطو على الحكم تحت غطاء الدين لتسهيل سرقة الدول العربية واحدة تلو الاخرى, وبيعها بأبخس الاثمان الى اسرائيل ومن يدور في فلكها, لكن كل هذا تبخر تماما ككابوس تطرده يقظة العقل وصدق الانتماء.
نعم, احتفال مصر هذا العام كان تعبيرا حقيقيا عن مشاعر العرب أجمعين, وليس المصريين وحدهم, في الانتصار على التخريبيين الافاكين, كان نقطة في نهاية سطر القلق والخوف على المصير الذي أغرقت به جماعة التدليس مصر, وسعت عبرها الى إغراق العالم العربي كله فيه.
وكما لكل ليل نهاية, فلأحفاد الهكسوس, وتتار العصر الحديث أيضا نهاية كتبت بحبر مصري عربي لا يبهت لونه مهما طال الزمان.
أحمد الجارالله
المصدر جريدة السياسة
قم بكتابة اول تعليق