صالح الشايجي: الموت الـ “وديع”

عرفتْه أذناي الطفلتان اللتان لم يبلغ صاحبهما الحلم بعد..
كنت أطرب لغنائه ولصوته ولموسيقاه والكلمات التي كان يتغنى بها وكنت أجهل أكثرها، حتى إذا ما استوى عودي واستقام سمعي ونضج عقلي رشدت وفهمت ما كان غامضا علي في صغري.

«عاللومة اللومة اللومة» كان هذا ـ أو كانت هذه الكلمات ـ أول اتصال لأذني بصوت وديع الصافي في باكر خمسينيات القرن العشرين وأنا بعد طفل منبهر بالدنيا وما في هذه الحياة على قلة ما فيها آنذاك في محيطي وفي بلادي على الأقل، وتربعت تلك الأغنية «عاللومة» في مكان من سمعي وربما في مكان من وجداني.

وأنا من صغري طروب أحب الغناء وأتعلق به وأعشقه وأحفظه ولي فيه ولع يفوق سنوات عمري الحابي في دنيا يجهلها.

وكبرت وكبرت حاضرات الغناء وحواضره وتعددت الأصوات وتتالت الأغنيات وزاد بها ولعي وبمطربيها ومطرباتها، وبدأت التقييم، فليس كل صادح بصوت أو صادحة يستقر في قلبي أو ينال طرفة سمعي، وعرفت غثّ الغناء وسمينه، هزيله ومتينه، صحيحه وسقيمه.

وولعت بـ «الصافي» في مطلع ستينيات ذلك القرن بأغنيات مازال في الذاكرة بعضها، لاسيما في تلك الصائفة اللبنانية التي قضيتها في «حمانا» وقلبي يدق على خطوات بنت من بناتها صبية عذبة حتى في عذابها لقلبي المحب الصامت، ومن تلك الأغنيات «بتروح لك مشوار» «بالساحة تلاقينا بالساحة» و«عمّر يا معمّر العمار» وغيرها.

«وديع الصافي» الغائب قبل يومين عن دنيانا التي أحبها وكان عاملا من عوامل حبنا لها، أكتب عنه لا لأرثيه ولكن لأصفه وأجعله في منزلته التي أراه فيها.

صوته هدير جبل لو أن للجبال هديرا، وإن لم يكن لها من هدير فصوته كان هديرها، يغني بقلب مفتوح ويسبح في بحور الغناء لا يخشى الغرق فيها، ونوّع في غنائه ولم يدع مطروقة منه لم يطرقها.

في الميجانا والعتابا والموال والموشح والقصيدة والأغنية الطربية الممتدة نفسا وإيقاعا والأغنية القصيرة الخفيفة والأغنية الساخرة والفكهة، في كل تلك الدروب كان وديع الصافي يسير وكأنه قائد القافلة لا أحد ركابها.

وديع الصافي فيك كلام كثير يقال، ولكن خير الكلام ما قل عنك ودل عليك.

وكفاني أقللتُ ودلَلت.

katebkom@gmail.com
المصدر جريدة الانباء

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.