في مكان غير عادي، ومع تجمع مبهر، قضيت ثلاثة أيام في اطار منتدى بني ياس السنوي الذي يعقد لقاءاته على أطراف الربع الخالي في منطقة تتجمع فيها كثبان الرمال ومياه الآبار مع أشجار صحراوية بين خطوط الرمال، وأجزم بأنه المكان الملائم لندوات يقع المشارك فيها أسيرا للجغرافيا ومخلصا لقواعد الالتزام.
وأشيد بالأداء المميز للشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان – وزير خارجية الامارات – في ترسيخ دبلوماسية الاطلاع والمناقشات والانفتاح والاقتحام، فلا توجد محرمات وانما حرية التعبير والتصدي، مع تنظيم رائع يعبر عن خبرة في فنون الادارة والمؤتمرات، واختيار مناسب للأولويات الملحة، يعرضها أصحاب تجارب تعاملوا مع هذه القضايا.
في أول جلسة يوم الجمعة الموافق 15 نوفمبر، كانت حول مفاوضات السلام الاسرائيلية – الفلسطينية، وكانت مشاركة كل من مارتن انديك، المبعوث الأمريكي للمفاوضات، سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني السابق، وتيري رود لارنسون، وزير خارجية النرويج السابق وبطل اتفاق أوسلو، مع اتصال «فيديو» بالرئيس الاسرائيلي بيريز، أعطت الجلسة حيوية وبعدا مختلفا حيث تابع المشاركون باهتمام، في تعبير جماعي عن الأمل في احراز تقدم..
كان السؤال هل الأمل موجود؟ وهل حققت أوسلو أهدافها، وما هي العقبات والاختلاف في التصورات، وفي مسببات الفشل ودور أسلوب المقاربة، يعني أسلوب الطرح وشخصية المفاوضين.
وأتابع المبعوث الأمريكي «أنديك» في طرحه المتفائل الذي يوحي بأن الاتفاق ممكن خلال فترة الشهور الستة الباقية، وأن هناك حاجة الى خلق آليات بناء الثقة بين الطرفين.
خرجت من تلك الجلسة بشيء من التفاؤل المشروط بالدور الأمريكي وضغوطه، والدور العربي في حماية أبومازن ودعمه، مع التلويح باغراءات المبادرة العربية في علاقات متكاملة مع اسرائيل، وتحفيز حكومة المتطرفين لمشاهدة حصيلة المكافأة التي ستأخذها من عقد سلام كامل، وتظل القدس العقبة الكبرى بالمقارنة بالملفات الأخرى مع تحذير بأن الاخفاق ليس خيارا لأن جولة المفاوضات الحالية هي الفرصة الأخيرة.
كانت الحلقة من أحسن ما سمعت عن حقائق المفاوضات خاصة في ضرورات الاتفاق وحتميته بسبب الأحوال الاقليمية والدولية والتبدلات في عالم الكونية، وتوجهات التنمية.
كانت الجلسة الأخرى المثيرة هي سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، ومثل الجانب الأمريكي فيها كل من أنتوني بلنكن Antony Blinken، وهو النائب الأول لرئيس مستشاري الأمن الوطني «سوزان رايس» وبمشاركة كونداليزا رايس، وزيرة خارجية أمريكا السابقة، والسفير فرانك ويزنر Frank Wizner، والجنرال ديفيد باتريوس David Petraeus- القائد الأمريكي في أفغانستان والعراق، وترأس الاجتماع د.تشيبمن – Chipmen، رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في لندن.
وأقدم هنا موجزا عن تصورات المؤتمر عن فشل السياسة الأمريكية في كتالوج يشمل فيها، فقدان المصداقية مع الأصدقاء، التردد في قضايا سورية، والتخلي عن المعارضة وتحولات المواقف من الشدة الى الاسترخاء، والضبابية حول ايران والتراخي الظاهر بعد الحزم الناشف، وغياب الحرفية والمهارة في التعامل مع أوضاع مصر، والافتراق عن الخطوط التي كانت تربطها مع دول الخليج، وتباعدها عن الاستماع الجدي للرأي الخليجي.
وتعرضت السياسة الأمريكية الى نقد لاذع في ذلك للحيادية التي تظهرها في المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية، بينما تملك الكثير من الأوراق مع اسرائيل..
أربع جولات أخرى، عن مصر وعن تبدلات الخليج، وعن الوضع في سورية، وواقع إيران
في جولة مصر، شارك عنها أربع شخصيات هامة، الدكتورة أندرسون، رئيس الجامعة الأمريكية في القاهرة، مصطفى حجازي- الناطق الرسمي للحكومة، عمر حمزاوي المثير للجدل، عبدالمنعم سعيد الخبير الواقعي والمقبول.
في الحقيقة لا أشارك التفاؤل الذي تسيد مداخلات الأخوة المصريين الثلاثة، ولا أعتقد بأن مصر تخرج من الوضع دون قرارات استراتيجية حازمة في السياسة والاقتصاد، وفي الدبلوماسية لنقل الثورة الحالية الى ثورة تزيل الموجودات الأيديولوجية التي تعيش في حياة مصر وفي اقتصادياتها وحواراتها وعلاقاتها الاجتماعية، يعني ان تعود مصر الى الليبرالية الوفدية مع تحسينات يفرضها الزمن.
تملك مصر الكثير من الامكانات لكنها لابد ان تنطلق لاسيما في الأراضي وتوزيعها وتخليص الحكومة من أعباء التأميمات.
تحدث وزير خارجية مصر السابق، السيد أحمد أبو الغيط، الذي أعرفه من أيام الأمم المتحدة، والمولع بالاستراتيجيات وتحليلات السياسة، وقد أصدر كتابا شاهد على الحرب والسلام وأقدر كثيرا حياديته ومصريته ووضوح فكره، وسأتحدث عن كتابه في المستقبل..
هناك تفاؤل يتسيد الجانب المصري في ان مصر ستنطلق مع تنفيذ خارطة الطريق، وكان الصوت المصري هو الرجاء باعطاء قيادتها فسحة من الزمن.
مشكلة الوضع في سورية هي الاختلافات والتباعدات بين الأطراف المعارضة، واحتفاظ النظام بالمبادرة وميل ميزان القوة لصالحه، مع برود في الموقف الدولي، وانحسار المؤازرة الجماعية، وانحصارها في عدد محدود من الدول الغربية، واتساع الاخبار عن التصفيات بين الراديكاليين الاسلاميين وبين غيرهم من ثوار الاعتدال الوطني.
وقد استمع ممثلو الثورة الى الموقف الروسي من المشارك في المنتدى السيد بيفل اندريف – Pavel Andreev، يقلل من فرص نجاح المعارضة ويكرر التزام موسكو بأن يتم الاتفاق بين الأطراف السورية على خارطة طريق المستقبل ولا توافق موسكو على اخراج نظام الأسد من المعادلة.
لم يسعفني الوقت لمتابعة حلقة ايران، لكن الانطباع العام الذي لمسته بأن المتحدثين الايرانيين لم يأتوا بجديد وأعادوا تكرار الموقف المعروف مع تحول في المفردات وفي النغمة والايقاع، وليس في الاهداف..
لا يستطيع أي ايراني مهما طال عنقه، ان يخرج من الاطار الرسمي للحكومة الايرانية، وهذه عقدة المشاركة الايرانية.
هناك الكثير عن المؤتمر وعن المشاركين وعن الترتيبات وعن ذلك القصر الجميل والأنيق في وسط الكثبان الرملية وبعيدا عن أمواج البحر واغراء صالونات التسوق والمولات الحديثة.
هناك ملاحظات لا تضيع في زحمة الجلسات وثراء المناقشة:
– من الواضح تعاظم لمسات الشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية الامارات على الشأن الخارجي لدولة الامارات، مشحونا بالحيوية والجرأة في اتخاذ المبادرات، وشاهدته في المؤتمر يوجود في الجلسات وفي اللقاءات الاجتماعية يتحدث مع المدعوين الذين أسس معهم علاقات حميمية واضحة، وأخذ دبلوماسية الامارات من دائرة المألوف الى حضن المبادرات الجريئة.
– لا أشك أن دور الشيخ عبدالله بن زايد ومساعده د أنور قرقاش وزير الدولة، هو مفتاح الحشد المتميز الذي رأيناه في القاعة الواسعة، من كونداليزا رايس، الى الجنرال بتريوس الخبير في العراق وأفغانستان، الى ديفيد مليباند وزير خارجية بريطانيا السابق وزعيم العمال فيها، الى وزراء خارجية العرب، العراقي والبحريني والعماني والاماراتي والأردني والأمير عبدالعزيز بن عبدالله نائب وزير خارجية المملكة، والمصري السابق أبو الغيط والمغربي بنعيسي، الى أعداد من النجوم والأسماء الساطعة، ولمدة ثلاثة أيام ثم يطل الرئيس الاسرائيلي بيريز ليتحدث مع رئيس وزراء فلسطين السابق سلام فياض، في مؤتمر واسع، ويتداخل مع لاري لارسون وزير خارجية النرويج السابق وبطل أوسلو..
– ورغم النفوذ والسلطة التي كانت بأيادي هذه الأسماء التي أشرت اليها، لم تتفاخر ولم يعشعش النفوذ السابق وبهرجة المنصب في سلوكياتها، كانت هذه المجموعة تدور مع حلقات النقاش وتظل متابعة وتستمر على المقاعد في صالون الموائد، على الرغم من المجد الذي انتهى مع حقائق الدنيا.
– يمكن الاشارة الى الاتجاهات العامة لهؤلاء الخبراء، نقد قوي لدبلوماسية الولايات المتحدة في ايران وسورية ومصر وفلسطين والخليج، وتحذير بضرورات الوحدة الفلسطينية وانهاء تمرد غزة، وحتمية التآلف السوري نحو موقف قوي وواضح، مع ضعف الثقة في وعود ايران ودعوة دول مجلس التعاون للتحرك نحو التلاقي في دبلوماسية دفاعية لها محتوى مقبول، وتطويرات داخلية تواكب المستجدات الكونية.
– أدار الصحافي المعروف توماس فريدمان الحلقة التي شاركت فيها عن الخليج، وكانت رسالته ضرورة التحاق الخليج بالتكنولوجيا وما سماه Digital age..
– فريدمان كاتب عمود يتحرك سريعا ويتحدث في كل موضوع وله مقترحات يقدمها دائما على شكل مشروع تنموي..
– بصراحة الربع الخالي يختلف عن اللوحة التي رسمها عنه المغامرون في أوروبا، كثبان من الرمال الرملية تنفصل عن بعضها بوديان مملوءة بأشجار هادئة ومريحة ليس فيها عفاريت وخالية من التوحش والوحوش..
بقلم: عبدالله بشارة
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق