المشكلة ليست مشكلة أشخاص فقط، سواء كانوا وزراء أو نوابا لأنهم نتاج طبيعي لبيئتهم السياسية، وما يتوافر فيها من قيم وأنظمة وآليات، بل إنها مشكلة تشوّه بناء الدولة الدستورية الديمقراطية العصرية التي توفر العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وسيادة القانون والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.
من الطبيعي جداً أن يطرح سؤال مثل “ما العمل؟” من قبل أطراف متعددة ومختلفة المشارب الفكرية والسياسية لأن الجميع دون استثناء بدأ يدرك أن الوضع السيئ الحالي لا يمكن له أن يستمر، بيد أن الاختلاف سيكون بنوع الإجابة عن هذا السؤال، لأن ذلك سيعتمد بالدرجة الأساسية على طبيعة تشخيص كل طرف من الأطراف السياسية للمشكلة الرئيسة التي تعيق تطورنا وتقدمنا.
من دون الدخول في متاهات الاختلافات الفكرية والسياسية، يمكن للمتابع أن يرصد بشكل عام ثلاث “جبهات” سياسية رئيسة يتناقض تشخيصها للمشكلة، وبالتالي إجابتها عن هذا السؤال، وهو الأمر الذي بدأ يعكس نفسه في الساحتين السياسية والإعلامية. مع ملاحظة أن مصطلح “جبهة” هنا يعني أطرافاً سياسية متعددة قد تختلف في ما بينها ببعض التفاصيل لكن تجمعها مصالح اجتماعية واقتصادية وهدف سياسي واحد.
“الجبهة” الأولى، ترى أن المشكلة التي تعيق تقدم وطننا تتلخص في وجود نواب مشاكسين يحاولون عرقلة عمل الحكومة وتعطيل المشاريع التنموية الكبرى للدولة التي يقوم بها القطاع الخاص، بسبب “كرههم” المستمد في الغالب من “كره” قواعدهم الانتخابية للنظام السياسي “الحكم” من جهة، ولبعض كبار المسيطرين حالياً على القطاع الخاص من جهة أخرى.
لذا فإن التخلص من هؤلاء النواب المشاغبين بأي طريقة كانت كتغيير الدوائر الانتخابية ونظام التصويت عن طريق “مرسوم ضرورة”، كما يطرح البعض حالياً سيحل المشكلة، بل إن بعض أطراف هذه “الجبهة” قد ذهب بعيداً جداً إلى درجة المجاهرة بالدعوة العلنية للانقلاب على نظام الحكم الديمقراطي، وذلك بتعطيل العمل بالدستور تحت دعوى “حماية الحكم”! من أجل التخلص ليس فقط من النواب “المشاكسين”، بل من مجلس الأمة كمؤسسة دستورية لا دور لها، كما يدَّعون، سوى “تعطيل” المشاريع التنموية الكبرى!
“الجبهة” الثانية، ترى أن المشكلة لا علاقة لها بكفاءة النواب بل إنها تكمن في طريقة تشكيل الحكومة، لذا فإن تغيير الحكومة ومشاركة بعض النواب فيها خصوصاً مما يسمى “كتلة الأغلبية” سيقضي على المشكلة التي تعرقل تطور مجتمعنا وتنميته، وسينهي حالة المرواحة السياسية.
أما “الجبهة” الثالثة، التي نتفق معها، فترى أن المشكلة ليست مشكلة أشخاص فقط، سواء كانوا وزراء أو نوابا لأنهم نتاج طبيعي لبيئتهم السياسية، وما يتوافر فيها من قيم وأنظمة وآليات، بل إنها مشكلة تشوّه بناء الدولة الدستورية الديمقراطية العصرية التي توفر العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وسيادة القانون والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وتقضي على حالة الانقسام الطائفي والفئوي وبروز الهويات الصغرى كالقبيلة والطائفة والعائلة على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
مشكلة تشوّه بناء الدولة الدستورية، كما يرى مؤيدو هذه الجبهة، هي التي دفعت الشباب الوطني المخلص للخروج إلى الساحات العامة مطالبين بالإصلاح السياسي الجذري والشامل “نهج جديد”، ومكافحة الفساد المؤسسي الذي اتضح بشكل صارخ في فضيحة الرشا السياسية التي طالت تهمها رئيس الحكومة السابق وبعض نواب مجلس 2009، لأن الهروب من مواجهة أصل المشكلة لن يحلها بل سيزيدها تعقيداً، والدليل أننا قد جربنا تعديل الدوائر الانتخابية مرتين من قبل (25 دائرة و5 دوائر) كما سبق أن جربنا حل كل من المجلس والحكومة مرات عديدة لكننا، وبالرغم من ذلك، لا نكاد نخرج من أزمة سياسية حتى نقع في أزمة أخرى أشد منها تعقيداً.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق