كان لافتاً للنظر تراجع الاهتمام بالمؤتمرات الحزبية السنوية في بريطانيا، والتي تُعقَد في فصل الخريف، لأن الأحزاب تعاني تدني العضوية بسبب ابتعادها عن تطلعات أغلبية الناخبين، وهو ما انعكس على نسبة المقترعين المتدنية في الانتخابات العامة، سواء في بريطانيا أو أوروبا أو حتى في أميركا.
توني بين «Tony Benn» البرلماني البريطاني الارستقراطي، الذي تحوّل إلى عمالي، واحتل مراكز حكومية، وبقي في البرلمان حتى اعتزاله عام 2001، أشار إلى هذه الظاهرة، بعد أن ترك الحزب بمجيء رئيس الوزراء توني بلير، العمالي، الذي تبنى سياسة ماغريت تاتشر، المحافظة، ودعا إلى الاهتمام بنشاط جمعيات النفع العام، التي بلغ عددها في ذلك الوقت 200 ألف جمعية في بريطانيا، كبديل للأحزاب.
هذا العزوف يمثل الإحباط الذي أصاب الناس من فشل الأحزاب في تحقيق أي إصلاح حقيقي… وعود كثيرة وإنجازات نادرة عندما يصل الحزب إلى الحكم.
هذا الفراغ أتاح فرصة الظهور للأحزاب الفاشية والدينية في هذه الدول، وهو ما يناقض طبيعة المرحلة التي يمر بها العالم، حيث بدأت ظاهرة المبادرات الذاتية تتكاثر وتنشط بشكل مثير للانتباه، حتى بلغ عدد هذه الجمعيات في أوروبا وأميركا الملايين.
جمعيات نفع عام بأهداف كثيرة مختلفة تتشكل من متطوعين مهتمين بحل مشكلة ما يعيشونها أو كارثة يريدون حماية البشرية منها، كمجموعات البيئة (الخضر) أو مجموعات لمحاربة بعض الأمراض أو التشوه الخلقي أو السرطان أو لنشر التعليم أو محاربة الأمية والفقر والجوع وغيرها.
فاعلية التجمعات
فاعلية هذه التجمعات تكمن في أن الأعضاء من المتطوعين والمدركين لأهمية ما يقومون به يتولد لديهم الحماس والإبداع في العمل والاستمرارية.
والفائدة الثانية تكمن في بداية التنظيم الجاد لأفراد المجتمع، ما يخلق مجموعة مهمة ومؤثرة، وخصوصاً في الانتخابات، عندما ترمي بثقلها على مَن يتعهد بتبني أهدافها.
ولأن النظام السياسي العالمي فاسد بطبيعته، وهو سبب المآسي التي تعيشها المجتمعات، ستقف الجمعيات ضد هذه المطالبات الإصلاحية، فتصبح هي أحزاباً معارضة للأنظمة الفاسدة، وتخوض المعترك السياسي مضطرة، للوصول إلى البرلمان أو حتى الحكومة، كما حصل لمجموعات الخضر في أوروبا.
والحقيقة، أنني لم أكن أدرك مدى انتشار هذه المجموعات، حتى حضرت اجتماعات بعض اللجان البرلمانية في المجلس الأوروبي في عام 1992، وتعرفت إلى بعض الأعضاء وكانوا من دول مختلفة (إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وهولندا… وغيرها)، الذين شكلوا كتلة برلمانية أوروبية مؤثرة.
وشاركت مع شباب من مجلس التعاون الخليجي في نقاشات لجنة حقوق الإنسان، كما حضرت نقاشات لجنة الشؤون العربية وهي تناقش تقريراً لمجموعة انتُدِبت للتعرف على معاناة الفلسطينيين في غزة المحتلة من قبل الإسرائيليين.
كما شاركت في اجتماع في البرلمان الألماني، رتبته مجموعة الخضر، لبحث الوضع الفلسطيني، واحتلال الكويت من قبل نظام صدام حسين.
نشاط هذه الجمعيات، بتنظيمها الجيد وأهدافها السلمية البعيدة عن الابتزاز السياسي، يجعلها القوة الجديدة المنظمة القادرة على حل مشكلات الناس، ومدخلاً للتغيير الإصلاحي السلمي.
الفرد الوحيد ليس أمامه إلا «التحلطم» من دون فائدة، أما الفرد المنتمي إلى أي جمعية، فهو رقم مهم في حزمة كبيرة قادرة على الفعل وتغيير الواقع إلى الأحسن، لذا فهذه التجمعات هي البديل الحقيقي لهذه الأحزاب المترهلة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، بعد أن فقدت قدرتها على استنهاض الجماهير لفرض التغيير… لا، بل أصبحت هذه الأحزاب جزءاً أساسياً في الفساد العالمي الذي نعيشه عن قصد، أو عدم فهم علمي لأسباب المشكلات التي نعيشها.
التحرك الشبابي في الكويت الذي ساهم في تحقيق وإنجاز بعض المطالب التي رُفِضت في وقت مبكر، كالدوائر الخمس، أو تغيير رئيس الوزراء، وظّف نشاطاته في دعم ما يسمى المعارضة البرلمانية، آنذاك، ما سبّب له التشتت والضياع في فهم طبيعة ما يجري.
هذا التكتل البرلماني المعارض، الذي احتل الساحة السياسية لم يكن يمثل توجهاً معيناً، فقد كان يتألف من أفراد يختلفون في التفكير حول أهم القضايا المطروحة كالحكم الديمقراطي والحريات العامة لا، بل كان بعضهم طائفياً أو قبلياً حتى «النخاع» وفيهم المشكوك في ذمته المالية، لقد كان تكتلاً انتخابياً للوصول إلى المجلس لتحقيق أغراض متعددة ومختلفة.
الحركة الشبابية… مراجعة حسابات
هذا الضياع الذي عاشته الحركة الشبابية جعلها تراجع حساباتها لتصحح المسيرة، وما نشاهده الآن من نشاطات متفرقة لحل مشكلات معينة يعانيها هؤلاء الشباب هو الطريق الأسلم لعملية الإصلاح، فها نحن نشاهد واحات من الأمل في مواقع عديدة، كمجموعة «ناطر بيت» يمثلون شريحة كبيرة من المجتمع لا يمكن أن تقبل أن تنتظر أكثر من عشرين عاماً للحصول على بيت، ومجموعة أخرى لا يمكن أن تنتظر سنتين أو أكثر للحصول على وظيفة، فهي تريد وظيفة، وهناك من يجد صعوبة في الحصول على موعد للعلاج وغيرها من مشكلات تهم المواطن الذي يريد حلاً لها.
تجمعات أخذت تتشكل لحل مشكلة تعانيها وتطالب بحل لها، وهي في ذلك ملتزمة بالعمل السلمي والقانوني، وتتجاوب السلطة معها.
هذا هو المجتمع المدني الذي بدأ يتحرك عندنا، كما هو حاصل في العالم، بعد أن أدرك الجميع أهميته وتميزه عن العمل الحزبي، بكل أشكاله، الذي أصبح عجزه ماثلاً للعيان.
لقد جاء الربيع العربي والعالمي ليواجه هذا الخلل، ليدك حصون الجهل والتخلف والفساد ويعطي دفعة للقوى الخيرة قوى المجتمع المدني لإحداث الإصلاح الذي تأخر كثيراً.
يجب ألا نجزع من الفوضى التي نراها الآن والدمار الحاصل، لأن أعداء التغيير كثيرون ومتنوعون ومتجذرون ومتعاونون، فمن الطبيعي أن تكون المعركة شرسة وطويلة ومكلفة.
ما في شيء زين يأتي ببلاش يجب أن نكون مستعدين لدفع الثمن ونرفض اليأس ونعمل، وكل عمل إصلاحي مهما كان بسيطاً ومتواضعاً فهو لبنة مهمة في بناء مستقبل أفضل لنا ولأجيالنا القادمة.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق