عبدالله خلف: الخطَّابة

منذ العهد الجاهلي عرفت الخطَّابة، التي تتصف بذرابة اللسان، وحسن التصوير البلاغي حتى انها بمقدورها ان تجمِّل الفتاة وتجعلها اجمل مما هي عليه.
والغريب ان بعض عبارات الخطَّابة القديمة تواترت مع الازمنة حتى وصلت الى عصرنا.. والى عقود قريبة كانت الخطَّابة في الكويت تصف من بعهدتها من النساء بأن شعرها ذيل حصان، وفمها خاتم سليمان، وانفها سيف مسلول، واسنانها لؤلؤ ومرجان، وعينيها من عيون المها، وفرعها غصن بان، وأنامِلها شقائق النعمان، وخدها تفاح الشام.. ولا يفرِّق كلام خطابة العصر بخطابة العهود السالفة والازمنة الغابرة.
???
بلغ الحارث بن عمرو ملك كندة ان ابنة محلِّم الشيباني فاقت بنات عصرها جمالا وحسنا وذكاء وفطنة.. مع ذرابة في اللسان وعقل وادب وبيان، فدعا امرأة من بني كندة اسمها عصام، ذات عقل ولسان فقال لها اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف الشيباني.
فمضت حتى انتهت الى امها فأعلمتها بما قدمت له، فأرسلت الى ابنتها وقالت لها.. اي بنية هذه خالتك اتتك لتنظر اليك، فلا تستري عنها شيئا ارادت النظر اليه من وجهٍ وجسدٍ وخلق، وناطقيها ان استنطقتك. فدخلت عصام اليها فنظرت الى ما لم تر عينها مثله قط بهجة وحسنا وجمالا، فإذا هي اكمل الناس عقلا وافصحهم لسنا وتنفرد بجمال باهر وحسن ظاهر، وقالت عصام «ترك الخداع من كشف القناع».
ثم اقبلت الى الملك الحارث. فقال لها ما وراءك يا عصام؟ قالت صرَّح المخص عن الزبد.. قال اخبريني قالت: اخبرك صدقا وحقا.. رأيت جبهة كالمرأة الصقيلة يزينها شعر حالك كاذناب الخيل المضفورة ان ارسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاها الوايل، وحاجبين كأنما خطَّا بقلم فاحم. قد تقوسا على عيني ظبية.. بينهما انف كحد السيف المصقول، لم يخنس به قصر ولم يمض به طول، حفت به وجنتان كالاقحوان في بياض محض كالجمان شق به فم كالخاتم لذيذ المبتسم فيه ثنايا غر ذوات أُشر، واسنان تبدو كالدرر وجواب حاضرٌ.. الى ان قالت: فأما ما سوى ذلك فتركت ان اصفه غير انه احسن ما وصفه واصف بنظمٍ او نثر.
فأرسل الملك الحارث بن عمرو صاحب كندة الى ابيها فخطبها فزوجه اياها فساق لها مائة ناقة من النوق الحمر.. فلما حملت الى زوجها.. قالت لها امها امامة بنت الحارث: اي بنية، لو ان امرأة استغنت عن الزواج لغنى ابويها وشدة حاجتهما اليها كنت اغنى الناس عنه ولكن النساء خلقن للرجال ولهن خلق الرجال.. اي بنية انك ستفارقين الجو الذي منه خرجت، وخلَّفت العش الذي فيه درجت الى وكرٍ لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه يملك رقيبا ومليكا، فكوني له امة يكن لك عبدا وشيكا.
يا بنية احملي عني خصالا تكن لك ذخرا وذكرا:
الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضع انفه فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشتم منك الا اطيب ريح، والكحل احسن الحسن، والماء اطيب الطيب والتعهد لوقت طعامه والهدوُّ عنه منامه فإن حرارة الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة والاحتفاظ ببيته وماله والابقاء على نفسه وحشمه وعياله والاحتفاظ بالماء حسن التقدير ولا تفشي له سرا، فإنك ان افشيت سره لم تأمني غدره، واعملي انك لا تصلين الى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك فيما احببت وكرهت.
واحذري فإن الغريبة يخفى صوابها ويفشى خطؤها.. ولا تتفاخري عليه وأظهري له حبك لاهله.

عبدالله خلف
المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.