افراح الهندال: لا براءة ذمة لمحارق العقول

الذين يوزعون علينا “بيانات” الورق الأحمر الفاخر… لا يختلفون عمّن يوزع صكوك الغفران؛ كلاهما يعتذر عن هدية “الفراغ” المذيلة بـ”سقط سهوا”!
كلاهما يتخيلنا الجنس “الإنساني” النكد، المترف، الهش، الموسوس بالفكر والتعاسة المحصنة في أبراج عاجية، يركبون “دبابات” القتال من فوق منابرهم، ولا يتورعون عن حشد عضلات الوجه وحشرجة الصوت وأقسى الكلمات ليوهموا الجمهور بهيئة المحاربين.
يزعجهم أنهم ولدوا اليوم، لا الأمس، ونتيجة هذا التصارع يسددون نقمة التخلف عن الحروب القديمة تجاه عقولنا، وإن لاحت في الأفق محاسبة، أصابوا كتبنا في الصميم، تاريخ مصادرة الكتب وحرقها ومنعها والتشكيك فيها عاجز عن تلوين سطوره.
قضيتهم: “كيف يعتصم إنسان من أجل كتاب هنا، بينما تحتضر البشرية هناك؟!”، السؤال الذي يفضح سذاجته هاينرش هاينه الشاعر الألماني، صديق ماركس وهوغو بصفعته: “حيثما تحرَق الكتب، يحرق الإنسان في النهاية”، ولا فرق بين منع ومصادرة الكتب باسم الرقابة أو حرقها… سوى بمدى طول أيدي الاستبداد.
يقول صاحب “تاريخ القراءة” الأرجنتيني آلبرتو مانغويل إن الدكتاتوريين يخافون الكتب أكثر من أي اختراع بشري آخر على الإطلاق، ونظرا لعدم استطاعتهم إبطال مفعول القراءة بعد تعلمها، فإنهم يلجأون إلى الحل الثاني الذي يفضلونه، ألا وهو منع تعلم القراءة للإبقاء على نوع واحد: “كلمة الحاكم بأمره”.
ولأن أصحاب الأيديولوجيات الفكرية الشمولية يتنازعون الحكم لفرض أفكارهم، فلا مجال إلا التوجه نحو الكتب، لأنها “تشتت الجهل، هذا الحارس الأمين والضامن الحريص للدول ذات الأنظمة البوليسية” بحسب فولتير، فالقراءة المقبلة على الحياة لا تخنع لأيديولوجية وحيدة، أما هؤلاء الدوغمائيون فيطرحون منظومتهم الفكرية على شكل نميمة مرتبة، أو ثقافة لا تمل من إعادة التدوير!
ولئن استفزهم اعتصام ضد منع الكتب، وتهكموا لأن المؤازرة لكاتب لم يدق عنقه، ولم تبتر يده وإنما مُنعت “وريقاته” فقط! فضلا عن استغرابهم الكتابة من أجل معلم ثقافي تاريخي يحترق، كما حدث في مصر أخيراً في ظل الاحتفال بالثورات، فإنهم تخندقوا في ترصد “أحمر” الدماء والحرائق… غافلين عن الإنسانيين الذين نادوا للكتاب، كما نادوا قبلاً للإنسان والأوطان، وكانوا المبادرين لكن دون هوس التنافس على القيادة!
***
وكأن المحارق لم تكتفِ بما يلقى إليها، فهبت نحو المكتبات بنفسها لتختار مكتبة “دار العروبة” في حولي، التي التهمت كتبها النيران قبل يومين، إثر تماس كهربائي، خبر حزين أقلق رواد المكتبة الذين يعرفون جيداً صاحبها المهموم بالثقافة د. خالد عبدالكريم جمعة، وفريق العمل فيها الرائعين عادل وأم أمل اللذين عملا على مدى سنوات لإمدادنا بالكتب التي نحتاج ولو من الخارج، والعامل المبتسم دوماً جونسون.
المكتبة التي يعتبرها الكثير الرائدة والأقدم والأهم من بين المكتبات التجارية في العمل الثقافي، حيث لا تعرف الآلة الحاسبة فيها تسعيرة سوى التكلفة أو أقل، ويسمح فيها بالدفع بالأجل، وتخصص الأرفف لبيع الكتب مدعومة بسعر رمزي ضئيل جداً، في عمل إنساني حميم لم يشهد له مثيل من قبل.
وعبر هاشتاغ “دار- العروبة” في “تويتر” دعا المثقفون والقراء مسؤولي الدولة إلى دعم المكتبة ومساندتها، كما تم مسبقاً مع “مكتبة الربيعان” و”قرطاس” وغيرهما، بما يليق، وتنمية الثقافة والعاملين فيها في البلد، كي لا يلملم الأسى تاريخ المكتبة الذي كان آيلا للنسيان حتى اشتعلت الذاكرة باشتعالها!
ومن هنا أضم صوتي، فدولة تدعم “الأعلاف” بالملايين غير عاجزة عن اليسير منها دعماً للثقافة.
وحملة إنقاذ للمكتبات قد تخفض أصوات الموهومين بولاية أمور الفكر، والثوريين الجدد المنقلبين على عقولهم، وسوى ذلك: لا براءة ذمة للمحارق!
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.