افراح الهندال: متلبسون بالقراءة

تخيل أن تكون فجأةً مشتبهاً فيه بسبب كتاب تقرؤه، أو تكون ضحية قاتل دافع عن شرف الفكر الأوحد، الفكر الأوحد بمعنى الجامد المقنن الذي لا يقبل النقاش ولا السؤال ولا تعدد التفسير أو تأويل الجمال فيه، ألا تظن أن هذه الفكرة كافية لتردك عن الخضوع لأولئك الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على العقول وأولياء لأمور البشرية؟ أولئك المستميتين لإماتة الحياة، أولئك المتعاضدين باسم “الله” وباسم الحفاظ على المقدسات والعادات والتقاليد والأعراف وحتى الأمزجة الخاصة بكل منهم؛ بعضهم على العروش يلقي أوامر المنع والقهر وفتاوى أحكام حق الحياة، وآخرون يؤدون المهمة على أكمل وجه ليحرقوا الأخضر واليابس ويشيعوا ألوان الحرائق والأدخنة ليكون “هوية الحياة”.
لا يتمكن هؤلاء من تصور قوتهم الخاصة القادرة على التحكم بالبشر إلا بإذن البشر أنفسهم، المفتي الذي يطرح فتاواه متحكمة بأبسط تفاصيل حركة الكائن الحي، لاجتهاد منه يرغمك على “تقليدها”، ويبرز آخر مكفرا وطاردا لك من “الملة” بسبب تجاهلك فتواه، وهكذا في تخالف مرير متصارع بعيد عن جمالية التنوع والاختلاف الطبيعية.
وكذلك المفتش الذي يفاخر بنبشه وراء نوايا الكتاب والأدباء ليتصيد في الماء العكر قوت يومه، ويقيم احتفالية القوم بطقوس التعنيف والتعزير بسبب عثوره على كلمة لها أثرها المزلزل لعرش الأعراف، المذيب لقالب الجليد الصلد، الهاتك لحرمات عقل عاش عمره الطويل طفلا مصونا بعناية من عالم الأفكار “المرعب”.
ومثله الرقيب الذي يقف على أعتاب عناوين الكتب، يصنفها بحسب عناوينها وأسماء كتابها، ليفرز الممنوعات تحت قدميه، يعلو بتراكمها ويتعملق، يستعيد مفردات الممنوع ولا يلقي إطلالة ولو عابرة على ليال من الأسى والتعاسة والقهر ولذة الحياة وفرحتها التي دوّنها ذلك الكاتب في بحث اجتهد فيه أو قصيدة أو نص أدبي أو لوحة فنية لم تجبر أحدا على اقتنائها أو قراءتها، كما تعمم تلك التعاليم التي جاءت بلحظات لا تختلف عنها بمنهجية الاجتهاد والإبداع… كل منهم يفتي بطريقته الخاصة!
ومن نكد المشهد أن ينضم إلى هؤلاء آخرون ليشكلوا جوقة محاكم التفتيش، ممن يتخوفون من مواجهة الحياة وبهاء صور تنوعها وأنقى تجلياتها، ليقاتلوا الفكرة بالسيف، ويعيدوا تاريخ المنع والإغراق والدفن والحرق بالأدوات نفسها، ولسنا بحاجة للتذكير بما مر بالمفكرين والأدباء والعلماء والبؤساء ممن فكروا، وجابهوا العدم بنشر الحياة، سيرة مغرقة بالقهر والاغتيال، لا اعتراض على آراء تختار وتنتقي وتقرر وترفض، لكن المرفوض تماماً أن تمس حرية الآخرين في ممارسة الخيارات الإنسانية إياها.
ولذلك أنشأنا “هاشتاغ:# لا_للرقابة” في “تويتر” تعبيرا عن رفض ممارسات الرقيب التي أودت بتاريخ معرض الكتاب في الكويت الذي أنشئ بأفق كانت أكثر حرية وتسامحا وتقهقرت مساحتها، وانطلقت حملة مركز تنوير الثقافي سعيا لإنهاء حالة التزمّت في عصر الكتاب فيه أيقونة صغيرة في متناول اليد بوسائل التكنولوجيا تتجاوز أجهزة التفتيش عدوة الورق، لإعادة الوجهة نحو تثقيف العقول والاعتراف بأهليتها لتحمل مسؤولية الاختيار والتعبير.
ومن لم يتحسس سلامة عقله وجسده وهو يقرأ سيرة الرقابة مستحسنا لها ومستهزئا بالمساعي التي تقاومها، فعليه فحص روحه التي عمتها البلادة وثقافة الموات.
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.