أكثر ما يرهق الدول ويضعف هياكلها ويضايق شعوبها هو ما يطلق عليه (الوهن القيادي) وأبرز مظاهره التحفظ الشديد في اتخاذ القرار المؤثر والتسامح الاضافي في التطاول على القانون، وأكثر من ذلك الترفق بمن يتجاوز الخطوط الحمراء وفي الاستخفاف بمصالح الدولة، وفي هيبة مؤسساتها بما فيها هيبة الحكومة ونظامها.
وقد تابعنا جميعا مسلسل التلاشي في دول الربيع العربي، الذي أطاح بقيادات لأن عروقها تيبست وحركتها تباطأت وأفكارها تجمدت، وبعضها تحول الى ما يشبه الأجساد المشلولة.
وكنت شخصيا من القلقين على اوضاع الكويت خلال أزمة الاضرابات التي أدخلت الكويت في تخمينات حول موقف حكومة الكويت منها، وكنا مع مجموعات من المتابعين من الأجانب ومن الكويتيين على اتفاق على ان الاضرابات أدخلت حكومة الكويت في مأزق مفصلي، فان تراخت كالمعتاد في سلوكها، فانها تكتب نعيها بأصابعها، وستنتهي اذا انهار هيكل النظام والانضباط، وستخضع الكويت للحالة الفوضوية بلاسيطرة وبلا مسار محدد، لأنها بلغت نهاية المطاف.
وخرجت حكومة الكويت من المأزق السياسي والاحراج الأخلاقي لأنها حزمت قرارها على ضبط الأمور وتطويق التهديدات وابراز الصلابة أمام صيحات المحتجين المطالبين بالعدالة في سلم الرواتب، لأنهم وقفوا على سهولة استسلام القيادة لمن يوظف حناجره للصراخ العالي، واستذكروا موقف وزير سابق في حكومة سابقة أغدق على أهل النفط بفيض حاتمي من خزائن الدولة، لأنه آثر السلامة واستسهل العطاء على متاعب الحزم.
شعب الكويت كما هو واضح من صوت التذمر يدعم حسابات الحزم والعزم التي تمسكت بها الحكومة في وجه المطالبين بتخزين الطائرات وسد المنافذ الحدودية، وما ينتج عنه من عزل وقطع تواصلها واتصالها مع الخارج، ويتوقع أهل الكويت بعد هذا الموقف بأن تحمي القيادة هيبة القانون وتدافع عنه وتتوسله كحجة ضد الذين يضعون مصالحهم فوق منافع الوطن.
نحن نتكلم عن الأمن الوطني لدولة الكويت الذي لا يتحقق بالتمنيات أو بالبكائيات، وانما بالفعل الحازم المنضبط الذي يقدم لصاحب الحق كل حقوقه لكنه لا يرضخ للتجاوزات ولا يستقيم مع الارتجال.
وقيل كثيرا عن استحالة قدرة الكويت على الوفاء بالسلم المتصاعد للرواتب التي تقفز، في اختراقات واسعة للانضباط الوظيفي، وكتب كثيرا عن سعر البرميل الذي يمكن ان يغطي التضخم الراتبي المطلوب، ونشرت أرقام تعجيزية عن أسعار النفط التي قد تنقذ الكويت، لكنها لن تتحقق مهما أصاب العالم من قحط نفطي.
والمشكلة ليست فقط في الوهن القيادي، وانما أيضا في أوجاع التعبئة التحريضية التي يشارك فيها بعض أعضاء مجلس الأمة المنتخبين لحماية مصالح الكويت العليا والذود عنها بكل ضمير وباحساس وطني مرتفع، وأفهم ان يصطف بعض النواب بين مقاعد المضربين للتشاور في المنحى المفيد للصالح العام ولحماية القانون واستعادة الاستقرار والهدوء، فلا يمكن ان يخرج دور النواب عن دائرة الحرص على مصالح الدولة، لكن الواقع ان هناك من يصب الزيت على أعصاب مشدودة وعلى ترقب متحفز وقلق مزعج من مفاجآت المجهول.
فلا يمكن السكوت على تعريض الأمن والأمان في الوطن لمزاجيات وتعصبات وفزعات قبلية أو فئوية تضر باجماع أهل الكويت على رفض التحريض ومعارضة الوقفات التي فيها تحد للسلطة، ومواجهات لتقويض الانضباط الجماعي والاستقرار السياسي.
ولعل أبلغ مشورة تقدم لمن يريد ان يلجأ الى حالة الاضراب وتجميد النشاط في مسارات الحياة هي التأكيد على السماحة الكويتية المعروفة في الوصول الى أعلى أبواب السلطة من أجل المداولات للحصول على حق كل الفئات بالتفاهم المدعوم بالغيرة الوطنية المعروفة لدى جميع أبناء الوطن، فالكويت كما نقول دائما، دولة مؤسسات، فيها احترام متجذر للنظام السياسي، وفيها وفاء لحق الوطن في اذعان المواطن للمصالح العليا ولأمن البلد واستقراره، والكويت ليست من الدول التي تحكم بالاستبداد وبأجهزة المخابرات وعبر جمعيات سرية سلطوية تخدم فراعنة الاغتصاب والتنكيل.
وسمو رئيس الوزراء الحالي رجل صادق في نواياه وصاف في ضميره يريد الخير ويسعى لراحة الجميع وله برنامج واضح نحو التنمية مع نظافة في المسلك، ولا يمكن ان نتشكك في صدق وعوده، ونقول له بكل بساطة، بأن الحكم له معاني في فنون القيادة، وأكثر عناصرها الحاحا هو التخاطب والتواصل مع الرأي العام للشرح والتفسير.
وكنت أتمنى ان يعقد، سمو رئيس الوزراء، مؤتمرا صحافيا في مثل هذه المناسبة التي تقتضي الوقوف على الخطة العامة لتوجهات الحكومة، ويجيب فيه بكل وضوح عن الموقف حول طلبات المضربين، وحول اجراءات الحكومة المستقبلية، لتجنب تكرارها، وأن يعلن كمسؤول عن ضيقه من التهييج الشارعي وعن الغوغائية السياسية التي تختفي وراء ستار المضربين، فالحكم في هذا الزمن، ليس مجالس مجاملات بقهوة مرة وبخور يتطاير، وانما قيادة تقدم أفكارا وتحفز بالأمل وتبشر بثمار المستقبل.
الكويت ليست مثل دول الخليج الأخرى حيث رتابة الحياة السياسية بلا منظمات أهلية وبلا صوت اعلامي مرتفع، فطالما فيها قانون للنقابات والتجمعات العمالية ومنظمات لأهل المهن والحرف، فلابد من التعامل مع هذا الواقع بالخروج من جمود الرتابة الى حيوية التخاطب والتواصل والاحتكام الى أبناء الشعب في نهاية المطاف، لأن الأسلوب التقليدي الكسول لا يثمر ولا ينفع مع مستجدات الحياة لاسيما في الكويت التي يعطي دستورها حقوقا نقابية لا يمكن تجاهلها، ولن ترضى هذه النقابات بالتبريكات اللفظية، وانما بالاقتناع بحكم القانون وبالحس الوطني المتوارث.
ولا نتجاوز الواقع في الاشارة الى ان الناس ضجرت من السنوات العجاف الماضية التي هبط فيها مستوى التخاطب وتسيدتها مفسدة التنافس السياسي، وقد أدى جمود الحالة السابقة وفوضويتها الى اشتداد أوجاع الضعف في قيادة الحكومة وترددها في حزم أمورها في تفضيل نهج الترضيات.
المطلوب من الجميع، في هذا الوقت الدقيق، وضع خاتمة للاضطراب الاداري في البلد وبدء وضع أساس متين للخطة التنموية الشاملة التي لا يمكن ان ترى النور بالاسلوب المواعظي وانما تأتي ثمارها بالتخطيط السليم المدعوم بالحزم وبسلطة القانون العليا، ونتذكر هنا بأن الكويت تملك عتادا قويا متمثلا في وفاء أهلها لترابها، وفي تراث صلب وجينات اعتادت على الابداع والفكر الخلاق.
عبدالله بشارة
رئيس المركز الدبلوماسي للدراسات
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق