عرفت المستشرق الروسي مينورسكي في سنة 1958 في مدينة «كمبردج»، وكان قد بلغ من الكبر عتيا، حيث انه من مواليد سنة 1877 في «روسيا» وقد تخرج في جامعة «بطرسبرج» قسم الدراسات الشرقية، وقد هاجر الى «بريطانيا»، ونال جنسيتها، واصبح بعد ذلك استاذا في جامعتي «لندن» و«كمبردج»، ومن مؤلفاته القيمة «تاريخ الدراسات العربية في اوروبا خلال القرن السابع عشر».
وقد قدمت اليه مجموعة شعرية، لم تر النور حتى يومنا هذا. كلها في الغزل، كنت قد نظمتها منذ سنة 1948 لكي يبدي رأيه فيها. وبعد مدة جاءني منه كتاب يقول فيه:
«استمتعت بقراءة مجموعتك الشعرية، ولك الشكر على هذه الفرصة التي أتاحت لي ان احيا لحظات هانئة في قراءة لغتكم الجميلة، ولكن عندي ملاحظة صغيرة، ارجو ان يتسع لها صدركم الرحب.
ان هذه المجموعة كلها في شعر الغزل، ولست ادري هل يستطيع الشاعر العربي المعاصر ان ينجح في عالم الادب بالغزل وحده. ان عباقرة الشعر العربي منذ ايام الجاهلية والى العصر الحديث لم يكن الغزل غايتهم القصوى، وانما كانوا ينظمون الشعر في مختلف الفنون، كالفخر والحماسة والوصف والرثاء والطبيعة.. والغزل.
ورأي ان عبقرية اللغة العربية ليست في شعر العاطفة، وانما هي في شعر القوة الذي عرف به الادب العربي منذ فجر شبابه. هذا هو رأيي الشخصي ابديه لك بكل اخلاص وبدون الزام، وأرجو ان اقرأ لك في المستقبل شعرا مختلف الالوان يضعك في صف واحدٍ مع الشعراء المجيدين».
ولهذه المجموعة الشعرية وعنوانها «باقة من الورد» قصة بدأت فصولها في سنة 1948. فقد كنت قبل هذا التاريخ بثلاث سنوات انشر خواطري الادبية، من تعقيب، او قصة، او مقالة، في الصحف العربية في العراق ومصر ولبنان، ولكنني كنت اهفو لنشر شيء من شعري، فكنت انظم المقطوعات الشعرية، وابعث بها الى المجلات العربية، ولكن بدون جدوى، ولو انني عرضت انتاجي الشعري على اهل الذكر لارشدوني الى شيء ما، وهو ان شعري حتى سنة 1948 كان لا يستقيم من ناحية الوزن. ونبهني الى ذلك الخطيب والشاعر العراقي «السيد علي الهاشمي»، عندما زار «الكويت»، في عام 1946.
ومرّت الايام وانا في صراع دائم مع الشعر واوزانه، حتى جاء يوم وجدت فيه نفسي موظفا في بيت الوكيل، وبيت الوكيل هذا شركة تجارية يعرفها اهل «الكويت». وكان ذلك في صيف سنة 1948. وكان مدير الشركة انكليزيا في منتصف العمر بين الاربعين والخمسين، وهو يمثل الارستقراطية الانكليزية، بأجلى مظاهرها. فهو صامت في اكثر الاوقات، لا يفارق شفتيه الغليون، وكنا اذا ألقينا عليه تحية الصباح او المساء لا يردها، واذا ردها فهي تحية فيها شيء كثير من الاستعلاء، وهي لا تتعدى هز الرأس. وكنت انا شخصيا احاذر ان التقي به الا اذا كان اللقاء لأمر ضروري جدا.
وقد تحدد عملي في نقل البريد من «الكويت» الى كل باخرة تغادر «البلاد»، واتسلم البريد كذلك من كل باخرة ترد الى «الكويت».
وكان عليّ ان اكون على ظهر الباخرة بمجرد وصولها، وكانت اوقات وصولها متنافرة، فأحيانا تصل الباخرة في الضحى، واحيانا عند الغروب، واحيانا عند منتصف الليل، وأحيانا عند الفجر. لذلك كنت منزعجا ومرهقا في أكثر الأوقات.. حتى جاء ذلك اليوم المشهود.
وجاء ذلك اليوم عندما دخل علي السيد «كرشو»، وهو منبسط الأسارير، وبسمته تملأ وجهه على خلاف العادة، وهو يكاد يقفز من البهجة. ولأول مرة رأيت ذلك الانجليزي الارستقراطي المتجهم يتحول الى انسان وديع، وبعد ان حياني بتحية الصباح اخذ يقرب كرسيا الى مكتبي وهو يسحب من غليونه انفاساً سريعة، وينفث الدخان حولي بكل سخاء.
وقد اصبحت مأخوذاً بما اقدم عليه مرتين: الأولى دخوله هاشا باشا، والاخرى جلوسه بقرب مكتبي وهو يبتسم مع سحب دخانه، ولولا ما كان عليه من البهجة جعلني ابتهج معه، لما تحملت دخان غليونه الكثيف.
وبعد لحظات قال: لماذا لم تقل لي انك معلم مدرسة.. وانك شاعر؟ فقد قال لي «حسين» كل شيء عنك – وكان حسين يعمل معي في قسم البريد -.
فقلت: أما انني معلم مدرسة فهذا صحيح، واما انني شاعر فلست كذلك، لانني حاولت ان اكون شاعراً منذ اربع سنوات فلم يستقم لي ميزان الشعر الصحيح، حتى اليوم.
فقال: نحن مدعوون الى حفلة ساهرة على ظهر الباخرة (دامرة) القادمة من «البصرة» في طريقها الى «الهند» وهي تحمل على ظهرها المدرسين الانجليز والهنود وعائلاتهم، وسوف تكون معنا، وهناك سوف ترى مشاهد شاعرية ستقفز بشعرك الى الامام، وعند ذلك سوف تذكرني، وانا شخصياً عندي اهتمامات ادبية منذ ايام الدراسة في جامعة «اكسفورد» .. ولكن هل عندك بذلة (سمو كن)؟!.
وقبل ان أجيبه على سؤاله قال: «لا تهتم فسوف آتيك ببذلة «سمو كن» تناسب حجمك من أحد الزملاء.
وزادني بهجة عندما عرض علي ان اعطيه دروساً في اللغة العربية مع جميع الموظفين الانجليز في بيت الوكيل وعائلاتهم، كتلك الدروس – على حد تعبيره – التي كان يعطيها «جون فانيس» في «البصرة» لطلبته من الانجليز. و«جون فانيس»: مستشرق انجليزي محدود الشهرة يغلب عليه الطابع السياسي، وهو معروف لدى المثقفين في منطقة الخليج.
اقول زادني بهجة عندما عرض علي هذا العرض السخي، السخي اديبا قبل ان يكون ماديا.. فأنا الموظف المجهول الذي كان ومنذ شهر من الزمان ينوء تحت وطأة العمل المرهق في البواخر، وفي الطريق الى البواخر بين الأمواج العاتية، سأصبح مدرساً للطاقم الانجليزي في بيت الوكيل، وسوف احظى بالاحترام والتقدير.. وزيادة الراتب، وسوف اودع البريد والبواخر والزوارق الهائمة بين الأمواج.
وبعد ثلاثة ايام جاءني أحد موظفي الشركة الانجليز، وهو السيد (فيفيان)، وهو يقدم لي احدى بذلتيه (الاسمكو كن» قائلا: «انا وانت متقاربان في الجسم، وان كنت ابدو اطول منك قليلا.. وجاء موعد الحفلة الساهرة.
كانت الباخرة «دامرة» تزدهر بمن عليها من الركاب، وهم في اجمل الحلل، وكامل الزينة. وكانت تتلألأ بالأنوار، مما جعل المواطنين، وهم على ساحل «الكويت» مأخوذين بتلك الاضواء التي تخطف الابصار.
وقد وصل زورقنا الى الباخرة في تمام الساعة الثامنة والنصف من مساء احد ايام الشهر الثامن من عام 1948، وكانت زوارق المدعوين البخارية قد سبقتنا الى الباخرة، وزوارق بعض المدعوين وصلت بعدنا، حتى تمام الساعة التاسعة، حيث افتتح الربان الحفلة الساهرة. وكان اغلب المدعوين من الموظفين «الانجليز»، العاملين في شركة نفط «الكويت»، وبيت الوكيل، والقنصلية البريطانية. وعندما دلفت الى قاعة الاحتفال كدت اصعق مما رأيت، وكنت اتعثر في بذلة «الاسموكن»، التي استلفتها من الزميل (فيفيان)، واظن ان كل من رآني ادرك انها لم تُفصّل على جسمي، اقول كدت اصعق لان الذي رأيته كان شيئا عجيبا، فللمرة الاولى في حياتي، وكنت قد تجاوزت العشرين. ارى نساء سافرات وهن في كامل زينتهن، والروائح العطرية تعبق في الارجاء، وانغام الموسيقى تتهادى في روعة وانسجام، ما هذا؟! أأنا في يقظة أم في منام؟ وما هذا الذي يحدث من حولي؟! وأخذت أفرك عيني لأتأكد أنني في يقظة لا في منام. واصبت بدوار لم يكن بأي حال من الاحوال ناتجا عن ثورة البحر، وقبل ان استجمع قواي واعود الى حالتي الطبيعية، بادرني رئيسي السيد «كرشو» قائلا: «أيها الشاعر الصغير» او «يا شاعري الصغير الذي لا تستقيم له اوزان الشعر، سوف ترى بعينيك، وسوف تسمع بأذنيك، وسوف تحس بجميع حواسك، ما يجعلك شاعرا بحق وحقيق».
ولم تمض دقائق حتى رأيت رئيسي الانجليزي الوقور المتجهم، قد تحول فجأة الى شاب مراهق ينتقل كالغزال بين المحتفلين، وكان بين الفينة والاخرى، يأتيني ومعه حسناء، وهو يقول: أقدم لك الآنسة او السيدة فلانة، وكان «كأسه» لا يفارق شفتيه الا قليلا، ثم يضيف قائلا: هذه الليلة سوف تجعل الشعر يفيض من نفسك كالينبوع، واذا لم توح لك هذه الليلة بشعر ترضى عنه فلن تكون شاعرا ابد العمر، وعندما كان يقدمني الى المدعوين، من ضيوف وركاب، يقول: أقدم لكم صديقي وأستاذي الشاعر فلان.
وهكذا أصبحت بين غمضة عين وانتباهتها صديقا واستاذا وشاعرا في نظر رئيسي الانجليزي فسبحان مغير الاحوال.
وبعد ساعة كاملة من التعارف بين الضيوف والركاب، وتناول المرطبات ووجبة العشاء، بدأت حلبة الرقص تستقبل الراقصين والراقصات على انغام الموسيقى الهادئة والصاخبة، اكثر من ساعتين.
وجاءني السيد «كرشو»، وكانت الصهباء قد لعبت بكل جوارحه ليسألني عن الشعر، وهل تحرك شيطانه؟ فكنت أجيبه بابتسامة ولا شيء غيرها.
وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، عندما حانت ساعة الوداع، والنزول من الباخرة الى زورقنا الذي اعادنا الى بر «الكويت»، ولا اكتم القارئ العزيز انني عندما هممت بالنزول الى الزورق تمنيت ان تكون هناك قوة خفية تضمني بكل ما تستطيع من مقدرة لكي ابقى على ظهر الباخرة، وهي تمخر عباب الماء نحو المجهول، ولكن هيهات.. هيهات.
والشعر.. وماذا عن الشعر؟! نعم لقد استطاعت تلك الحفلة الساهرة التي هيأها لي السيد «كرشو» بما فيها من حب وموسيقى، وصخب وقصف، ومن فيها من اجناس مختلفة، وحسان ملهمات للشعر والشعراء، استطاعت ان تجعلني مالكا لناصية الوزن والقوافي، بما نظمته بعد ذلك، فكان نواة للمجموعة الشعرية التي تحدث عنها المستشرق الروسي الاستاذ «مينورسكي».
وظن ان هذا الامر ليس بمستغرب، فالشعر الذي يقرأه الانسان في الكتب، من غزل وغيره، لا يكفي وحده، ليجعل منه شاعرا يسيطر على جميع جوانب الشعر وعدته، وانما يحتاج الشاعر الى مصادر للإلهام من طبيعة وحب وجمال، لكي ينطلق في فضاء الشعر الواسع.
وهكذا بقيت المجموعة الشعرية «باقة من الورد» وهي اولى مجموعة شعرية لي، بعيدة عن الاضواء.. وقد استطعت تحقيق رغبة الاستاذ «مينورسكي» فكتبت شعرا مختلف الالوان. والحمد لله، فصدرت مجموعة «على ضفاف مجردة» في سنة 1973، ثم مجموعة «25 فبراير»، في سنة 1981. وها هي ذي المجموعة الثالثة «كاظمة واخواتها» بين ايدي القراء الكرام.. وأكون بذلك قد نشرت كل اشعاري. عدا الغزل. واذا مد الله في العمر، فسوف اعمد الى هذه المجموعات الثلاث لاختيار احسن ما فيها بالاضافة الى مجموعة «باقة من الورد» لتكون هذه المختارات «المجموعة الشعرية الكاملة». إن شاء الله.
فاضل خلف
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق