تبنى البنك الدولي في تقريره عن التنمية لعام 2013، والصادر للتو، موضوع التوظف بوصفه منطلقاً أساسياً لعملية التنمية، كما تبنى معضلة إيجاد فرص عمل منتجة كافية باعتباره التحدي المحوري الذي يواجهها.
واتبع التقرير منهجية تهدف الى تحديد العوامل التي تجعل من بعض الوظائف أكثر فائدة للتنمية من غيرها، وقد خلص إلى أن الوظائف ذات المردود الإنمائي الأفضل هي تلك التي تجعل المجتمعات تنهض بوظيفتها بشكل أفضل، أو تمكن من ربط الاقتصاد المحلي بالأسواق العالمية، أو تحمي البيئة، أو تعزز الثقة والمشاركة المدنية، أو تسهم في الحد من الفقر.
وقد تصدى التقرير للإجابة عن الأسئلة الأكثر إلحاحاً في عقول واضعي السياسات التنموية، وهي: هل ينبغي للبلدان أن تجعل استراتيجياتها الإنمائية تتمحور حول تحقيق النمو أم تركز على نوعية فرص العمل؟ وهل ينبغي أن يكون التركيز على حماية الوظائف أم على حماية العاملين؟ وأيهما ينبغي أن يأتي أولاً في عملية التنمية، خلق الوظائف أم بناء المهارات؟
وتوصل التقرير الى أن القطاع الخاص هو المحرك الرئيسي في عملية خلق الوظائف وفرص العمل، لكن الحكومات تلعب دوراً شديد الأهمية بتأمينها للظروف المواتية لتحقيق نمو قوي يقوده القطاع الخاص، وبتخفيفها من شدة القيود التي تحد من قدرة القطاع الخاص على خلق وظائف منتجة تصب في صالح التنمية.
هذا التقرير المتميز شارك في اعداده فريق عمل ضم 23 باحثا ومحلل بيانات، وساندته هيئة استشارية عالية المستوى، ودعمته عدة حكومات ووكالات دولية، وأنبثقت نتائجه من عدة دراسات ميدانية قطرية، وحظي برعاية خاصة من الادارة العليا في البنك الدولي.
وقد أشار جيم يونغ كيم رئيس البنك الدولي في تقديمه لهذا التقرير الى أن فرص العمل الحقيقية (لاحظ الحقيقية) تحتل موقع القلب بالنسبة للأهداف الأسمى للمجتمعات، فهي التي تحقق التنمية، وتؤدي الى تماسك النسيج الاجتماعي، واستقرار المجتمع.
هذا التقرير شديد الأهمية لنا في الكويت، فهو يتناول المعضلة الرئيسية التي يعانيها الاقتصاد الكويتي، وهي ندرة الوظائف ذات المردود الانمائي، وهي المعضلة التي تتسبب في تعطيل مسارات التنمية وتثقل كاهل قاطرتها. والتي أرى أن بين أهم العوامل التي تقف وراءها:
1- التدهور الذي أصاب نظام التعليم العام في دولة الكويت، والذي أدى الى تراجع ملموس في معدل التحصيل العلمي، خاصة في الرياضيات والعلوم، ومهارات اللغة والقراءة والكتابة، فضلا عن غياب أي تخطيط علمي للربط بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات التنمية.
2- كثرة القيود والتعقيدات التشريعية والادارية التي تحد من قدرة القطاع الخاص على ايجاد وظائف حقيقية للمواطنين، فضلا عن عدم مواءمة مهارات الخريجين مع الوظائف المطلوبة، إضافة إلى عدم رغبتهم في شغل وظائف تتطلب جهدا نسبيا ولا تحظى “بامتيازات” الوظيفة الحكومية غير المنتجة. بل وانتقلت أمراض الجهاز الحكومي الى القطاع الخاص الذي بات ملزما بتعيين مواطنين دون إسناد مهام حقيقية لهم، في سبيل الالتزام بالحد الأدنى من نسبة العمالة الوطنية في المؤسسات الخاصة.
3- عشوائية آلية التوظيف في القطاع الحكومي، حيث يتم مركزيا توزيع الخريجين على جهات العمل دون أدنى مواءمة بين تخصصاتهم وفرصهم الوظيفية التي هي في معظمها فرص غير حقيقية، وتؤدي في الغالب الى تكدس أعداد متزايدة من العمالة غير المنتجة أي “البطالة المقنعة”.
4- غياب اعتبارات الكفاءة والمهارة ليس في عمليات توزيع الوظائف ونظم الترقيات فحسب، بل في تحديد سلم الرواتب والأجور أيضا، حيث تنعدم آلية الربط بين الجهد والأجر.
كل ما أتمناه أن يستفيد القائمون على التخطيط التنموي في الكويت من هذا التقرير، وأن يستخلصوا منه العبر والدروس الصحيحة، وألا يكون مصيره كمصير عشرات الدراسات السابقة التي استهدفت اصلاح نظام التعليم وسوق العمل في الكويت، وبغير ذلك فإن مستقبل الكويت وكويت المستقبل في خطر.
* أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق