عبداللطيف الدعيج: ربيع الكويت حكومي

ما أطلق البعض عليه «الربيع» العربي انتهى كما بدا لي إلى أن يصبح قيظا وخريفا، أسقط متسلطين ليستبدلهم بجماعات أكثر تسلطا. أنهى حكم جماعة ليستبدلها بطائفة. ولم يكن ربيعا ولا بردا وسلاما على أحد. كل هذا تم على يد وبإدارة حركات وجماعات «دينية» متطرفة، استطاع ان يحتويها بشكل واضح تنظيم جماعة الإخوان المسلمين.

بدأ ما يسمى بالربيع العربي أول ما بدأ في الكويت، وليس في تونس كما يشير كثيرون. أطلق الإخوان حملة «ارحل» هنا، قبل أن يطلقوها في تونس أو مصر. وحدث أول تصادم بين الاجهزة الامنية والمتظاهرين هنا في الكويت في ديوان الحربش، قبل ان تبدأ الحركات الاحتجاجية في اي من بلدان ما يسمى بالربيع العربي. لكن ظروف الكويت، والطبيعة شبه الديموقراطية لنظامها جعلت الحراك مقتصرا على معاداة الحكومة وليس السلطة. والمطالبة «الآنية» تنحصر في إسقاط رئيس مجلس الوزراء، وليس النظام.

***

لقد بدأ المدون «الطارق»، حاليا مشاري المطيري، حملة «نستحق الأفضل» التي تحولت إلى «ارحل» في الكويت، والمقصود بالحملة وبـ«ارحل» بالطبع الشيخ ناصر المحمد، في 2009/10/27، والبوعزيزي التونسي حرق نفسه في 2010/12/16، اي بعد اكثر من عام على انطلاق حملة ارحل، او «نستحق الأفضل» في الكويت، وبعد أسبوع من أحداث ديوان الحربش التي وقعت في 2010/12/8، وبعدها، اي بعد احداث تظاهرات ديوان الحربش اندلعت التظاهرات في تونس، ثم في مصر ثم تبعتها في بقية ما يسمى دول الربيع العربي. هذا يجعل ما يسمى بالربيع العربي كويتيا بامتياز. والواقع أن «الربيع» الكويتي بدأ حتى قبل ذلك. على يد بعض المدونين الذين تحركوا أيضا بشكل جزئي من أجل تغيير نظام الدوائر والمطالبة بـ«نبيها خمس». وعلى ما أعتقد، وهذا مجرد ظن، أن السيد خالد الفضالة هو «الدينامو» الأساسي لكلا الحركتين، حركة نبيها خمس وحركة «ارحل» وحتى التحولات الحالية.

***

لقد أدى نجاح حملة المدونين «نبيها خمس»، التي شارك فيها المدون «الطارق»، أدى به الى استثمار مشاركته في الحملة وعلاقاته ببقية المدونين الى اطلاق حملة «نستحق الأفضل»، التي تبنتها في النهاية الكتل البرلمانية وحركة الإخوان المسلمين بالذات بحكم العلاقة التي تربط المدون مشاري المطيري بهم. وتحولت بعدها الى حملة «ارحل»، وانتهت بما انتهت إليه الآن.

***

لكن ما يحدث عن حق في الكويت هو ربيع عربي ولكنه معكوس، ربيع تقوده الحكومة وليس الناس، السلطة وليس الشعب، النظام وليس الأحزاب. لدينا تبادل أدوار غريب هنا!. ربما لن يستسيغ حقيقته بعضهم، ولكنه واقع مؤكد وقائم، ودلالاته تتجدد وتتأكد كل يوم. إذا صدقنا الله يرحمه الشيخ سعود الصباح بأن الدولة في الكويت مختطفة من قبل الجماعات الدينية، فإنه من السهل الاستنتاج بأن ما يحدث الآن، هو محاولة لتحرير أو استعادة هذه الدولة. وهذا باختصار ما يجعل الربيع العربي في الكويت حكوميا وليس شعبيا. اي ان النظام يستهدف التحرر من قيود الموروث والعادات والثوابت القديمة، والمجاميع الشعبية تتمسك بالوضع إن لم تستهدف جره الى الخلف، بغض النظر عن الشعارات الديموقراطية أو الوطنية التي تطرح.

***

إقرار دستور 1962، ثم وفاة المرحوم عبدالله السالم، دفعا ببعض أقطاب الصف الثاني في الأسرة إلى محاولة استعادة السلطات القبلية التي قننها وقيدها هذا الدستور. ونشط في هذا المجال الثلاثي من الشيوخ رحمهم الله جميعا: جابر الأحمد، جابر العلي وسعد العبد الله. بينما لم يساهم في هذا النشاط حضرة صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الأمير الحالي، ربما بسبب شخصيته وميوله، أو بسبب انشغاله بمتابعة السياسة الخارجية الكويتية التي كانت في ذلك الوقت تلعب دورا بارزا في تحقيق المصالحات وعقد التحالفات، الى ان نافستها الدول النفطية بعد ذاك في السبعينات، ثم تولت الجزائر قسما كبيرا من الدور الكويتي. بينما اعتزل السياسة الشيخان سالم العلي ومبارك عبدالله الأحمد.

***

للتصدي للمد الوطني الديموقراطي، ولتقييد الحريات السياسية والاجتماعية في دستور 1962 لجأ ثلاثي الأسرة إلى التحالفات المزدوجة مع الأطراف الاجتماعية. تحالفوا مع القبائل، والمصدر الأساسي لهذه التحالفات كان التجنيس، وتحالف كل منهم مع شريحة او فئة اجتماعية. وهكذا اختار جابر الاحمد قبيلة مطير مع جماعة مدنية اصطلح على تسميتها بــ «جماعة الشبرة»، بينما اختار الشيخ سعد العوازم مع «الاخوان المسلمين»، فيما التصق جابر العلي بخواله العجمان مع علاقات ببعض اطراف القوى الوطنية. والجدير بالذكر هنا ان تزوير 1967، والذي اقصى العجمان تماما عن مجلس الامة فلم يبق لهم، او بالاحرى للشيخ جابر العلي، اي ممثل، اللهم الا اذا حسبنا خالد المسعود وفلاح الحجرف من العجمان، هذا التزوير ادى الى انفكاك المرحوم الشيخ جابر العلي عن اقطاب الاسرة والميل اكثر نحو الخط الديموقراطي الوطني.

***

مجلس 1967 وما رافقه من كساد وانخفاض اسعار النفط، وزيادة اعباء الدولة الريعية، ادت الى تذمر اقطاب الاسرة انفسهم من الوضع المزري الذي اختلقوه. فكان ان تصدى المرحوم الشيخ جابر الاحمد لعملية الاصلاح باعلانه الخطوات الاصلاحية في بيان 24 حزيران 1970. وكانت ابرز او اهم نقاط البيان هي دعوة «التجار» لاعادة تسلُّم دورهم الريادي في المشاركة في قيادة البلد. لكن التجار بقيادة عبدالعزيز الصقر وجاسم القطامي قاطعوا الانتخابات بحجة ضرورة «تشذيب الجداول الانتخابية». سمعت كلمة تشذيب أول مرة من الله يرحمه جاسم القطامي. وطبعا «التشذيب» تعني ازالة الغصون العالقة، او التي ليست في محلها من النبات. والاستعارة هنا تعود الى ان البعض، بمساعدة ودعم وزارة الداخلية، شكل جداول انتخابية خاصة به، بحيث انها غيرت طبيعة وحجم الجداول الاصلية، وذلك باضافة الاعوان والاتباع من خارج المنطقة او الدائرة الانتخابية. لذلك دعونا وقتها لمقاطعة الانتخابات ما لم يتم تشذيب الجداول الانتخابية وتُوقف حركة نقل الاصوات غير الشرعية. طبعا الحكومة لم تستجب كما هو معروف واجريت الانتخابات بعد ان اعلن ما اصطلحنا على تسميته في ذلك الوقت بــ «جماعة الطليعة» عزمهم على المشاركة. ولم يُمثَّل التجار او القوميون الناصريون في المجلس بسبب المقاطعة، وان كانت اغلبية المعارضة، التي تشكلت بعد الانتخابات، في ذلك الوقت، قريبة منهم، مثل محمد الرشيد وسالم المرزوق وعلي ثنيان الغانم ومبارك الساير ويوسف المخلد وبدر المضف وبدر العجيل وراشد الفرحان، وبالطبع رباعي جماعة الطليعة احمد الخطيب، سامي المنيس، عبدالله النيباري، واحمد النفيسي. لهذا تم تشكيل حكومة تجار بدلا من حكومة الموظفين التي اطاح بها بيان 24 حزيران، وهي تقريبا تعتبر بديلا او استمرارا لحكومة 1964 التي اسقطها اقطاب الاسرة قبل ان تؤدي القسم. وتبعا لهذا التصالح بين النخبة التجارية والاسرة الحاكمة، او بالاحرى قطبي الاسرة جابر الاحمد وجابر العلي، مرت الكويت بعصرها الذهبي الوحيد بعد الاستقلال.

***

لكن، طبعا الحال لم تدم، ولسبب لا يمكن الجزم به، انتكست الاسرة ديموقراطيا، وتم حل مجلس الامة وتعليق بعض مواد الدستور. اظن ان الانتكاسة تعود الى اسباب وظروف اقليمية ودولية، مثل حل مجلس الامة في البحرين والاضطراب الطائفي في لبنان، ثم انتصار «الرئيس المؤمن» أنور السادات في حرب اكتوبر، كل هذه العوامل عززت من تأثير ونفوذ الطرف المناوئ للديموقراطية داخل الاسرة، فكان ان تم الحل – غير الدستوري – الاول لمجلس الامة عام 1976 بعد ان شهدت الكويت في سبعيناتها اربع سنوات من الازدهار الديموقراطي المدني، وسنتين من المراوحة.

الوضع الاقليمي المتمثل بصعود التيار الديني نتيجة هزيمة الثورة العربية في حرب 1967، ثم انتصار السادات الذي هيأ له قيادة المد الديني او تمثيله رسميا، هذا الوضع ادى الى تنامي الطرف غير المتفق والنظام الديموقراطي داخل الاسرة الحاكمة وهيمنته بالتالي على امور البلد. وهو الوضع ذاته الذي ربما حسم الصراع داخل الاسرة على ولاية العهد لمصلحة الشيخ سعد عوضا عن الشيخ جابر العلي.

***

اقتفى الشيخ سعد الذي انتخبته الاسرة الحاكمة وليا للعهد اثر الرئيس السادات، فعزز تحالفه مع الجماعات الدينية وحركة الاخوان المسلمين بالذات. وبحكم علاقاته القبلية، فقد نشأ تحالف ثلاثي قوامه السلطة والقبائل والاسلاميون، هيمن على البلد منذ ذلك الوقت وحتى مرض الشيخ وظروفه الصحية التي أعاقته عن ممارسة سلطاته. هيمن التحالف السلطوي الديني القبلي على الدولة والمجتمع. وعاد بالكويتيين الذين تمدنوا، او كادوا، الى الوراء، الى تقاليد وأعراف العشيرة والقبيلة، وأخضعهم لرحمة التسلط الديني المتطرف. المجتمع الكويتي كان متسامحاً دينيا، مالكي المذهب في الغالب، لكن بفضل الهيمنة الثلاثية للتحالف تحول الى مجتمع حنبلي، او بالاحرى وهّابي سلفي. وسادت البلد مسحة دينية، عبرت عن نفسها بكثرة المساجد وكثرة مرتاديها، بالاضافة الى الظهور الاعلامي للاذان، واستخدام مكبرات الصوت في إلقاء الخطب واذاعة الصلوات، ثم مسابقات القرآن، وتكريم من يحفظه ولو كان مجرما في السجن المركزي. وفرضت العقلية السلفية على المدارس الحكومية والخاصة في المناهج، وتم اجبار المدارس على استقبال دعاة التأسلم الديني، هذا بالاضافة الى تقديم الدعم للجمعيات والهيئات، وحتى الاحزاب الدينية، فتم منح مبالغ خيالية لجمعية الاصلاح والاتحاد الوطني – في الواقع الاسلامي بسبب سيطرة «الاخوان» عليه – لطلبة الكويت، الذي اصبح مؤتمره السنوي يفتتح تحت رعاية الشيخ سعد. وبدلا من عقد المؤتمرات العلمية والثقافية كندوة ازمة التطور العربي التي حضرها كبار المثقفين والعلماء العرب، فقد أصبحت الندوات والمؤتمرات مقتصرة على شيوخ الدين وبعض المتسلقين الذين تكاثروا بفعل «الصحوة» الدينية.

قبليا تمت «بدونة» او «قبلنة» المجتمع وتقبل الكويتيون الذين تعود اصول اغلبهم الى قبائل «القبلنة»، وأخذت العادات القديمة تعود مجددا لتسيطر على عقلية العائلات الكويتية واساليب معيشتها.

وفي الدولة تم انشاء ادارات عدة لتستوعب العقلية القبلية التي ترفض العمل، ما لم يكن في الحرب او الحراسة، فانشئت دائرة خفر السواحل وسلاح الهجانة وحرس الحدود وحراس مدارس التربية.

في المقابل فقدت الكويت ريادتها العربية وحتى الخليجية، وفقدت مركزها التجاري المميّز بسبب الانغلاق الاجتماعي والهوس الامني. فتعطلت تجارة الترانزيت، وانشلت حركة الاسواق. وفقدت الكويت حتى مركزها كنقطة عبور ملائمة للحجاج، خصوصا الايرانيين والعراقيين. وطوال ربع قرن، او ربما ثلاثة عقود، اي منذ حل مجلس الامة سنة 1976 وحتى وفاة الشيخ سعد، فان الكويت لم تشهد اي حركة او مشروع اقتصادي او سياسي كتلك المشروعات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي زخرت بها بداية السبعينات.

***

بوفاة المرحوم الشيخ سعد، او في واقع الامر مع بدايات تفاقم مرضه، وتولي حضرة صاحب السمو الامير الحالي رئاسة مجلس الوزراء، بدأ التحالف الثلاثي بين السلطة والقبيلة والتأسلم السياسي بالتفكك. فكما بينا في البداية، حضرة صاحب السمو لم يكن مرتبطا او متحالفا مع اي طرف اجتماعي او سياسي كسابقيه من اقطاب الاسرة، اكثر من هذا، صاحب السمو أتى وهو يسعى الى اعادة الكويت الى دورها المميز، مدنيا واقتصاديا وثقافيا، وهو ما يتعارض تماما مع النهج والعقلية الدينية القبلية لحلفاء «السلطة». هنا كان طبيعيا ان يحدث التعارض بين النظام وبين حلفائه، وكان طبيعيا ان تبرز لنا «معارضة» جديدة، تختلف في هويتها وطروحاتها عن المعارضة التقليدية او التي نعرفها. منذ بداية الحراك الحالي المعارض للحكومة، حرصتُ على تسميته بــ «المقاطعة» او المعارضة الجديدة وليس المعارضة، كما اطلق عليه البعض.

***

المعارضة دائما ضد المحافظة. والمحافظ هو دائما من يملك زمام الامور، وبالتالي يسعى الى المحافظة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على الاوضاع. حاليا مجتمعنا تهيمن عليه الروح القبلية، وهي تتسيد بين كل الكويتيين. وتسيطر عليه النزعة الدينية السلفية المتعارضة، واغلب مستلزمات التطور الانساني في هذا العصر. بغض النظر عمن يحكم او يهيمن على مجلس الوزراء، نحن نتحدث هنا عن مجتمع ودولة تخضع، او هي حسب ما بينا في البداية «مختطفة» من قبل التحالف الديني القبلي. هذا التحالف الديني القبلي الذي تمثله جماعة المقاطعة او ما يطلق عليه «خطأ» معارضة معني بالمحافظة على الاوضاع، والابقاء على كل شيء على حطته. لذلك هم محافظون وهم يسعون الى الابقاء على الاوضاع على ما هي عليه، وليس الى التغيير والتقدم. من يطمح الى التغيير هو الحكومة، ومن يسعى الى تطوير الكويت وتحويلها الى مركز اقتصادي هو السلطة. على الجانب الآخر يهم التحالف الديني القبلي تثبيت الاوضاع الحالية، لانها تتفق وطموح هذا التحالف.

***

لهذا رأينا المعارضة تشتد ضد اي محاولات للتغيير، ضد خطة التنمية، وضد الخصخصة، وضد خطط التقشف وضد تقليص نسب المقبولين في الجامعة، وضد كل خطوة اصلاحية تنفض مخلفات الركود الديني القبلي، وطبعا كل هذه المعارضة تتم بدعوات محاربة الفساد والابقاء على رفاهية المواطنين وحماية حقوق ذوي الدخل المحدود، وبالطبع الحفاظ على المال العام.

لولا الانتهاكات التي مارستها السلطات ضد حريات المواطنين في التعبير، لقلت ان ما يحدث هو بالفعل «ربيع حكومي» وان من يتصدى له هم المستفيدون من الاوضاع المتردية الحالية، ومن يعضون على التخلف الذي نعيش، وممن كل من نتجوا عن هذا الوضع غير الطبيعي وحققوا نفوذهم من خلاله.

عبداللطيف الدعيج
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.