كان امتحان الغزو الذي خرجت منه الكويت بنجاح، رغم الثمن المأسوي الذي دفعته من البشر والحجر، فرصة تاريخية لم نحسن اقتناصها لبناء دولة صلبة قوية مختلفة محصّنة من انقسامات الداخل وتهديدات الخارج.
بعد عشرين عاما نقولها ونحن نلمس جراح واقعنا ونتلمس مخاطر غدنا من دون ضرورة لإعادة التذكير بما تعصف به الساحة السياسية من عواصف طائفية ومذهبية وقبلية.
خرجنا من محنة الغزو أكثر قوة واتحادا والتفافا حول شرعيتنا. خجلنا من بعض الانقسامات التي أعطت رسالة خاطئة إلى الخارج وجددنا العهد والبيعة وتوافقنا على ميثاق غير معلن لصيانة المكتسبات الدستورية وتطوير الديموقراطية والحريات العامة. عدد السكان قليل نسبيا مقارنة بحجم الثروة والبنى التحتية موجودة لم تدمر تماما مثل معنويات الكويتيين الذين آمنوا بالتحرير والعودة إيمانهم بنهائية وطنهم. دولة حدودها محمية باتفاقات مع الدول الكبرى وأمنها مصان بوجه عربدة الآخرين وتهديداتهم والعالم ينحاز إلى حقها في التعويض ويراقب انطلاق ورشتها الكبرى لإعادة الإعمار… ثم نصل بعد 22 عاما الى ما نحن عليه اليوم من تأخر في اللحاق بقطارات التنمية التي قادتها دول المنطقة واضعين أيادينا على قلوبنا من الانقسامات الداخلية التي تعصف بالمجتمع وانحدار الحياة السياسية إلى مستويات غير مسبوقة تهدد بتقويض دولة القانون والمؤسسات.
هذه هي جراح واقعنا التي نلمسها، أما مخاطر الغد التي نتلمسها فقد تجعل البعض يترحم على الواقع وأتمنى أن أكون مخطئا.
في أواخر الستينات وأوائل السبعينات كان لبنان يعيش بحبوحة نسبية سمحت له بأن يحتل مكانة «سويسرا الشرق». كان اللبنانيون والعرب يتابعون برنامجا تلفزيونيا مشهورا اسمه «بيروت بالليل» يتحدث عن السهر والسمر، لكن ليل بيروت كان يخبئ اشياء أخرى غير التي نراها في التلفزيون، أهمها أن الانقسامات السياسية والمذهبية والطائفية وشعور مناطق بالغبن والحرمان وتكوين أحزمة بؤس على ضفاف المدن… كلها مهّدت لعدم الاستقرار وأسست لقيام «دويلات» أقوى من الدولة كل واحدة منها ترفع قضية خاصة أو شعارا خاصا مثل «الطائفة اولا» أو «الحزب أولا» أو «المنطقة أولا»، ولكل واحدة منها وسائل إعلامها ومؤسساتها الخاصة وتمويلها الداخلي والخارجي وعلاقاتها الدولية. وكلما كانت الدولة اللبنانية تتراخى وتستخف بظاهرة الانقسام كان عود الدويلات يشتد، وكانت قيادات هذه الدويلات تستقوي بالخارج لدعم موقعها في التركيبة اللبنانية الداخلية على حساب الشرعية والمؤسسات.
… والباقي معروف، تخلخلت السيادة وضعفت الهيبة وأشعلت العوامل الداخلية والخارجية والصراع في الشرق الأوسط، وعلى الشرق الاوسط، الساحة اللبنانية وصارت الدويلات اللبنانية سفارات بل وأدوات للأطراف الخارجية التي «ساعدتها» ومدّتها بالمال والسلاح والدعم، وصارت الساحة اللبنانية مختبرا لتصفية حسابات الدول أو صناديق بريد ملغمة ترسل من خلالها الدول رسائل نارية الى بعضها عن طريق ميليشياتها في بيروت.
طويت صفحة الحرب اللبنانية لاحقا لكن الاستقرار النهائي مازال حلما بوجود أحزاب وتيارات وطوائف تعتبر نفسها أقوى من الدولة، ومازالت امتداداتها الخارجية قائمة، ومازالت مستعدة لخوض حروب مباشرة أو بالواسطة مواكبة للوضع الإقليمي المتفجر… مع التذكير بأن «مختبرات» الدويلات اليوم أخطر بكثير من السابق لان العوامل المذهبية صارت سمتها الأولى ولأن التقسيم الذي كان يُخشى منه سابقا سيتحول إلى «تفتيت».
لا نتمنى إلا الخير للبنان، والوعي للبنانيين القادرين فعلا على إدهاش العالم دائما بـ«شطارتهم» وثقافتهم ورسالتهم الحضارية وعلاقاتهم الدولية.
نتمنى ذلك، ونعود إلى الكويت لنقول إن الوضع طبعا يختلف مع ضرورة عدم الركون إلى ما قد يحيكه الآخرون وإلى تمهيد بعضنا لفتح الأبواب للآخرين من خلال الإمعان في هز الاستقرار السياسي. الوضع يختلف لكن في الكويت اليوم تيارات لها علاقات معروفة بمرجعيات غير كويتية، ولها وسائل إعلامها، وحركة أموال متنقلة عابرة للحدود بمسميات مختلفة، ولها مؤسساتها، ولها قضاياها التي تجهد ليل نهار لتعبئة قواعدها بها وهي قضايا متصلة بالنزاعات الإقليمية أكثر مما هي متعلقة بالتنمية ومستقبل الكويتيين وتطوير كل قطاعات ومؤسسات الدولة، ولها متطوعون وأنصار قادرون على احتلال المرافق العامة بلا خوف أو وجل ويأخذون الحق بأيديهم تماما كما كان بعض اللبنانيين يقولون إنهم تسلحوا لأن الدولة لم تحصل حقوقهم…
والأهم من ذلك كله ان هذه التيارات والأحزاب تنتشي وتتباهى بالخطاب المذهبي والقبلي وتغلبه على الخطاب الوطني الجامع لأنها اختبرت نجاحاته مع كل استحقاق انتخابي حيث يفوز الاكثر تطرفا ما يعني أن الخلايا الانقسامية انتشرت بقوة في الجسد الكويتي.
نريد أن تكون «كويت بالليل» هي نفسها «كويت بالنهار»، وألا تصبح التيارات محطات للإيجار لهذه الدولة أو تلك، وألا تتراخى الدولة أكثر من ذلك مع «الدويلات» التي تطل برأسها أو «الإمارات» التي صارت تعتقد نفسها أكبر من الإمارة.
نتمنى ان نكون مخطئين، وان يكون كل ما ذكرناه كابوسا لا صلة له بالواقع. حسبنا في ذلك أننا اجتهدنا… ومن اجتهد وأخطأ فله حسنة.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق