في الحديث عن المادة الثانية من الدستور والمحاولات التي جرت وتجري لتعديلها، كانت لي سلسلة مقالات بدأتها في 19 فبراير واستأنفتها في 18 و25 مارس و1 أبريل، وكان من بين ما تناولته في هذه المقالات، كيف اقترح 46 نائباً في الفصل التشريعي الخامس تعديل المادة الثانية من الدستور لتكون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، في الوقت الذي قرروا فيه إلغاء العمل بإحكام الشريعة الإسلامية، التي كان معمولاً بها في الكويت، عندما أقر مجلس 1981 المرسوم بقانون رقم (67) لسنة 1980 الذي ينص في مادته الأولى يلغي العمل بمجلة الأحكام العدلية، ويستعاض عنها بالقانون المدني المرافق، وهي المجلة التي كانت تقنيناً للفقه الإسلامي والتي صدر بالعمل بها، في أرجاء الدولة العثمانية، إرادة سلطانية في عام 1293 هـ.
القانون المدني الكويتي
وهو القانون العام الذي ينطبق كأصل عام على كل فروع القانون دون تخصيص، فهو الذي يحدد مصادر القانون التي يلجأ إليها القاضي، عندما لا يجد نصاً تشريعياً، ويحدد أشخاص القانون، الشخص الطبيعي والأشخاص الاعتباريين، والحقوق ومصدرها والأموال وتقسيمها وانطباق القانون من حيث الزمان، وغير ذلك من أحكام، تسري على كل فروع القانون الخاص والقانون العام.
المصدر التاريخي للقانون المدني الكويتي
وقد لا يعلم البعض أن القانون المدني الكويتي الصادر عام 1980 هو تراث إنساني أخذ من القانون المدني المصري الذي صدر في 16 يوليو سنة 1948 بعد جهد مضنٍ ودراسة كاملة لحركة التقنينات العالمية التي أعقبت التقنين المدني الفرنسي استمرت أكثر من عشرة أعوام، وقد قامت بهذه الدراسة ثلاث لجان، شارك الفقهاء المصريون فيها فقهاء فرنسيون وإيطاليون، وشاركهم كذلك كبار رجال القضاء.
ومن هذه التقنينات العالمية المختلفة النزعة- بلغ عددها 20 تقنيناً- التي استمد منها مشروع القانون المدني المصري من التشريعات اللاتينية التقنين المدني الفرنسي والتقنين الإيطالي والإسباني والبرتغالي والهولندي وتقنينات دول أميركا الجنوبية وتقنين كندا الجنوبية، ومن التقنينات الجرمانية التقنين الألماني والنمساوي والسويسري وباقة مختارة من التقنينات من كل من المدرستين اللاتينية والجرمانية، وهي التقنين البولوني والتقنين الياباني وتقنين البرازيل وتقنين السوفيات والتقنين الصيني.
استمد مشروع القانون المدني المصري ما اشتمل عليه من أحكام من هذه التقنينيات مجتمعة ومن الشريعة الإسلامية أيضاً، وتضيف الأعمال التحضيرية لهذا القانون أنه لم يوضع نص إلا بعد أن فحصت النصوص المقابلة له في كل هذه التقنينات وفي الشريعة الإسلامية، ودقق النظر فيها جميعا واختير منها أكثرها صلاحية.
مبادئ الشريعة الإسلامية
أي أن مبادئ الشريعة الإسلامية، كانت أحد مصادر ثلاثة استمد منها القانون المدني المصري أحكامه، فقد أخذ منها هذا القانون الكثير من نظرياتها العامة، وعلى رأسها نظرية إساءة استعمال الحق التي لم يكن لها مقابل في القانون المقارن، وكان المصدر الثالث أحكام القضاء. كما تبوأت الشريعة الإسلامية في القانون المدني المصري مكانة كبيرة كأحد مصادر يلجأ إليها القاضي عندما لا يجد نصاً تشريعياً أو عرفاً يحكم المسألة محل النزاع. كما أخذ منها في الصياغة الفنية نزعتها الموضوعية، إيثاراً لاستقرار التعامل، ولم يأخذ في هذا الصدد بالنزعة الشخصية التي تتمثل بالتشريعات اللاتينية، وهو الاتجاه الرئيس الأول في الاتجاهات العامة الثلاثة التي رسمت للمشروع. أي أن القانون المدني الكويتي وقد استمد أحكامه من القانون المدني المصري، يكون بذلك مأخوذاً من مصادر متعددة تصل إلى 20 تقنيناً من التقنينات العالمية فضلاً عن الشريعة الإسلامية.
اللجنة العليا للشريعة الإسلامية
وقد أنصفت اللجنة العليا لاستكمال تطبيق الشريعة الإسلامية هذا التراث الإنساني، فلم تعدل من مواده البالغ عددها (1082) مادة وآلاف الفقرات إلا 15 فقرة ليس لها أدنى علاقة بالعقيدة الإسلامية أو الفرائض أو الكبائر، بل هي أمور يختلف التقدير فيها حتى بين أئمة الفقه الإسلامي.
تقديم العرف على الشريعة الإسلامية
وكان من بين مواد القانون المدني الذي وافق عليه مجلس 1981، الفقرة الثانية من المادة الأولى التي توجب على القاضي إن لم يجد نصاً تشريعياً، أن يحكم بمقتضى العرف، فإن لم يوجد اجتهد القاضي رأيه مستهدياً بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقاً مع واقع البلاد ومصالحها.
أسباب تقديم العرف على الشريعة الإسلامية
وقد أفاضت المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي في بيان الأسباب التي جعلت المشرع يحيل القاضي إلى العرف قبل الشريعة الإسلامية، فأرجعت ذلك إلى الأسباب التالية:
1- إن العرف المعتبر هنا هو ذاك الذي لا يخالف النظام العام أو حسن الآداب، فالعادات التي تتنافى مع الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تقوم عليها الجماعة لا ترقى أبداً إلى مرتبة العرف وإن طال عليها الزمن.
2- وفي بلد- كالكويت- يدين بالإسلام بنص الدستور، لا يمكن أن يعتبر عرفاً كل من يخالف أصلاً من أصول الإسلام أو حكماً من أحكامه الأساسية الثابتة.
3- العرف هو المصدر الشعبي الأصيل الذي يتصل اتصالاً مباشراً بالجماعة ويعتبر وسيلتها الفطرية لتنظيم تفاصيل المعاملات التي يعجز المشرع عن تناولها بسبب تشعبها أو استعصائها على النص.
4- أن العرف يعتبر مصدراً تكميلياً خصباً يتناول المسائل التي تسري في شأنها قواعد القانون المدني وقانون التجارة وغيرهما من فروع القانون التي تقبل ذلك بطبيعتها.
5- أن العرف من أهم المصادر التي توجب الشريعة والفقه الإسلامي اعتمادها، وقد اشتهر على ألسنة الشرعيين قولهم العرف شريعة محكمة.
تقديم الفقه الإسلامي على العرف
وبالرغم من قوة وأسانيد المذكرة الإيضاحية في تقديم العرف على الفقة الإسلامي، والتي تتفق وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما رآه الناس حسناً فهو عند الله حسن”، فإن مجلس الأمة ما لبث في الفصل التشريعي السابع أن أقر تعديلاً للقانون المدني قدم فيه الفقه الإسلامي على العرف. فقد كان من بين التعديلات التي أدخلها القانون رقم (15) لسنة 1996، تعديل للفقرة الثانية من المادة الأولى سالفة الذكر يلزم القاضي إذا لم يجد نصاً تشريعياً يحكم المسألة محل النزاع بأن يصدر حكمه وفقاً لأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقاً مع واقع البلاد ومصالحها، فإن لم يوجد، حُكم بمقتضى العرف، أي أن التعديل قدم أحكام الفقه الإسلامي على العرف في مصادر القانون التي يلجأ إليها القاضي عند الفصل في المنازعة، وهو التعديل الذي كانت قد اقترحته اللجنة العليا لاستكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق