برزت في السنوات الأخيرة مصطلحات جديدة ضمن سياق معظم الخطابات السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، ولعل أبرزها مصطلح «إقصاء الآخر». والمعنى اللغوي للإقصاء هو الإبعاد، (أقصى الشيء أي أبعده إلى حد أقصى)، لكن المعنى المتداول يتجاوز الإبعاد إلى الإلغاء وعدم الاعتراف بالآخر. وهنا مكمن الخطورة في المعنى الثاني، فإن كان الإبعاد يبقى في إطار التفرّد الذاتي مع الاعتراف «الجزئي» بالآخر، فالإلغاء، هو مصادرة وجود وكيان وذاتية الآخر واحتقاره، مما قد يؤدي إلى الدخول في صراع معه، فضلا عن ردة الفعل المضادة منه.
وللإقصاء أسباب عدة، منها البحث عن التفرّد وتضخيم الذات وسأسميها «دكتاتورية الأنا»، ومنها الخوف من سيطرة الآخر أو تفوقه بسبب قصور القدرات الخاصة، ومن ثم ضياع الذات، ولعل البعض يقصي الآخر بحثا عن التميز ولم يجد وسيلة لذلك سوى إلغاء الآخر، رغم أن التميز يتطلب وجود الآخر.
ومما يؤسف له، أن كثيرا ممن ينادون بالاعتراف بالآخر ويرفضون الممارسات الإقصائية، نجدهم يفعلون نقيض ما ينادون به، سواء كان بوعي منهم أو دون وعي، فما ان يختلف أحد معهم بالرأي أو الفعل أو الذوق، يمطرونه بالألقاب والصفات، بل قد يتهمونه بالإقصائية و«الشوفينية» أو السطحية والتخلف، وغيرها من الصفات الجاهزة لـ«الرجم»!
لإقصاء الآخر أشكال وأنواع ووسائل مختلفة، لكن جميعها تصبّ في هدف رئيسي، وهو تعزيز الأنا، أو تعزيز الهوية الخاصة، سواء للإنسان الفرد أو الجماعة، أو ادعاء التفرّد بامتلاك الحقيقة، فعلى سبيل المثال، الإقصاء الديني يقوم على إلغاء كل من ليس من الدين نفسه، وكذا الإقصاء المذهبي والطائفي، والإقصاء السياسي يلغي كل الأطراف الأخرى، والإلغاء يختلف عن التنافس، والإقصاء الاجتماعي له مقاييسه العائلية والقبلية والعرقية التي من خلالها تعطي كل فئة لنفسها الامتياز وتلغي الآخرين.
الإقصاء الثقافي، وهو الأشد خطرا، لأن أهم وأبرز شروط العمل الثقافي قبول الآخر مهما بلغت شدة الاختلاف، والاعتراف بكيانه الفكري والذوقي، إضافة إلى الانفتاح على كل الاهتمامات والثقافات والجماعات والأفراد أيضا، بل عادة ما يكون المثقف هو محل الأنظار، فإن كان سلوكه غير مطالباته، فهذا سيؤدي إلى اهتزاز صورة المثقف في المجتمع.
من الضروري العمل من أجل نبذ الفكر الإقصائي، بالقبول بالتعددية وتعزيز الاحترام «الكامل» بين الجميع، وأن يقبل كل إنسان وكل جماعة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو طائفية بالآخر، مهما اختلف معه، وأن يبقى الحوار مفتوحا متواصلا بين جميع أطياف المجتمع وأفراده.
أسيل عبدالحميد أمين
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق