وفعلاً حدث ما كنا نحذر منه في قضية التوسع في عقوبة الإعدام، حيث بدا الجدل الفقهي حول جواز تلك العقوبة من عدمها، وتبايُن آراء الفقهاء حول المسألة، بين مؤيد ومعارض، بينما يفترض أن تكون حياة البشر مصونة ومحمية؛ فالله سبحانه هو الذي بث الروح وهو وحده سبحانه الذي ينهيها. ولا يمكن أن يقبل إنسان راشد أن يَمنح تلك الصلاحية لسلطة تحوم حولها شبهة الفساد، تُميِّز بين البشر، ويموت الناس عندها تحت التعذيب، وتمارس التفرقة بين أفراد المجتمع، وتشجع خطاب الكراهية، كي تكون هي التي تتولى التحقيق والتنفيذ وترتيب الأدلة لإعدام إنسان. والنواب الذين وافقوا على الإعدام، والتوسع فيه، وبافتراض حسن النوايا لدى البعض، أو المجاملة، أو الجبن، أو الجهل، إنما يرتكبون خطيئة فادحة بحق المجتمع، فهم يُسلِّمون رقاب الناس لسلطة قالوا، ومازالوا يقولون عنها، إنها فاسدة، وهي ذات السلطة التي استمرأت تدبيج الأدلة ضد خصومها وحوَّلت عباراتٍ هنا وهناك إلى جرائم أمن دولة، فكيف تناسى نوابنا الأفاضل ذلك وهم الذين عانوا ملاحقاتها وادعاءاتها؟! أما الآن فالمسألة لن تحتاج إلا إلى “شوية” شهود بأن فلاناً قد تعرَّض لمقام النبوة أو الذات الإلهية، ليدخل خصم سياسي بريء في متاهةٍ ما بعدها متاهة، وقد يكون واحداً من الذين وافقوا على هذا القانون.
إلغاء عقوبة الإعدام لا علاقة له بمبادئ ليبرالية أو علمانية، كما يحاول البعض أن يصور ذلك، بل له علاقة مباشرة بالحد من تغوُّل السلطة ضد خصومها باسم الدين أو العقيدة السياسية، وهي ممارسات جرت على أيدي كثيرين في محيطنا كجعفر نميري وشاكلته، أو حتى صدام حسين، وبالذات في سنواته الأخيرة خلال ما عُرِف بالحقبة الإيمانية، التي قيل إنه كتب فيها قرآناً كاملاً بدمه، وارتكب في أثنائها جرائم بشعة باسم الدين.
منذ سنتين بالضبط وفي شهر أبريل، دعتني جامعة نايف للعلوم الأمنية بالرياض إلى إلقاء محاضرة عن منظمة العفو الدولية، كان موضوعها من اختيارهم، كانت المحاضرة ضمن دورة خاصة لـ٤٧ قاضياً شرعياً، وهو ما شجعني على قبول الدعوة، فكانت فرصة لا تُعوَّض لفتح حوار مع شريحة مهمة، قد لا تجمعني بها فرصة للحوار، بالطبع تعرضت لمناقشة المبررات التي تنطلق منها المنظمة في موقفها ضد الإعدام، وطرحها برنامجاً ذا ١٢ نقطة للتقليل من الإعدام إن لم تكن الدولة ترغب في إلغائه نهائياً.
وقبل انتهاء محاضرتي طرحت السؤال التالي: “بغض النظر عن موقفنا من الإعدام، هل هناك ضمان لعدالة أي سلطة موجودة في يومنا هذا أياً كانت تسميتها لكي نسمح لها بقتل الناس؟” فكانت ردود الفعل مشجعة جداً، بأنه من غير الممكن توافر هذه الضمانات وبالذات في موضوع كالإعدام، لذا وجب علينا دوماً التروي خشية انحراف السلطة واستغلالها للقوانين لإزهاق أرواح خصومها. تكرر الأمر ذاته في مؤتمر عقدته منظمة حقوقية دولية إسلامية في الكويت منذ ثلاث سنوات، وخُصِّصت جلسة حول الإعدام تحدثتُ فيها وآخرون، وجاءت تعقيبات بعض الشخصيات الإسلامية الناشطة مشككة في كفاءة الإعدام كوسيلة متبعة، خاصة أن أغلب ضحايا الإعدامات كانوا من الإسلاميين بحجج إسلامية.
نحن بحاجة إلى إعادة النظر كلياً في استخدام الإعدام لكي لا ينقلب الناس على بعضهم فيستخدموا القانون في تصفية بعضهم بعضاً وسط خطاب كراهية متأصل في النفوس وتربص من هذه الفئة ضد تلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وللحديث بقية
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق