من واقع القراءة السريعة لطلب التفسير للمواد 108 و110 و111، الذي تقدّم به عدد من النواب الأسبوع الماضي، فإنه مع احترامنا لمقدمي الطلب، إلا أن هذه الخطوة تعتبر السابقة الأولى على مدى 50 سنة من صدور الدستور بعد حالة طلب التفسير بشأن ما شاب عملية التصويت على انتخابات رئيس المجلس سنة 1996.
ويعلم الجميع أنه لا يمكن أن يتم تحصين الممارسة الديموقراطية من خلال طلبات التفسير للمحكمة الدستورية، وإنما من خلال تفعيل مواد اللائحة الداخلية للمجلس.
وإذا نظرنا إلى آراء المختصين، سنجد أن الخبير الدستوري د. محمد المقاطع يؤكد في كتابه الوسيط في نظام الدستور الكويتي ومؤسساته السياسية (الباب الثاني) المطلب الرابع (ضمانات دستورية وقانونية لحماية العضو ووظيفته النيابية) «الحصانات» أن الدستور الكويتي أرسى أعرق وأهم الضمانات النيابية على الإطلاق، التي تحفظ منزلة ومكانة العضو، لما لها من شرف تمثيل الأمة، حيث قسم الحصانة إلى نوعين: حصانة موضوعية وحصانة إجرائية، مشيرا بهذا الصدد إلى أن الحكمة في تقرير هذه الحصانة كغاية جليلة، تكمن في إحاطة عضو مجلس الامة بالدعم اللازم لممارسة مهامه، من دون أن يكون مترددا أو متخوفا او حتى انتقائيا فيما يختاره من ألفاظ أو عبارات أو كلمات أو آراء أو مواقف عند ممارسة مهامه، خشية أن تتم مؤاخذته عليها أو مساءلته عنها بأي صورة من الصور.
الحصانة الموضوعية
وأشار المقاطع في كتابه إلى تساؤل يتطابق مع مضمون طلب التفسير محل البحث، وهو هل هذه الحصانة الموضوعية تعصم عضو مجلس الأمة من المساءلة بصورة مطلقة؟
بمعنى آخر: هل عضو مجلس الأمة يقوم بالتعبير عن آرائه وأفكاره من دون قيد أو شرط؟
والجواب بالإيجاب فيما يتعلق بالمساءلة الجنائية، وكذلك المدنية التي تكون للآخرين أيا كانوا في مواجهته، لكنها لا تعصمه من المساءلة التأديبية من قبل أعضاء مجلس الأمة باعتبارهم يمثلون مؤسسة برلمانية لها لائحة داخلية تفرض جزاءات على أي مخالفة يقوم بها العضو.
والمادة 181 من الدستور تأتي لتكمل المواد 108 و110 و111 التي أجازت إعلان الأحكام العرفية في الأحوال التي بيّنها القانون، والتي تقرر ما يلي: (……….. ولا يجوز بأي حال تعطيل انعقاد مجلس الأمة في تلك الأثناء أو المساس بحصانة أعضائه)، وهذه الماده ترسي حكما جوهريا في شأن الحصانة، حينما تمر الدولة بفترة المشروعية الاستثنائية بإعلان الأحكام العرفية فيها، ومع ما قد يترتب على ذلك من تضييق للحريات وتعطيل لأحكام الدستور التي أجازت هذه المادة في مثل هذه الأحوال وفقا للحدود التي يبينها قانون الأحكام العرفية، بأنه لا يمكن في هذه الفترة المساس بحصانة أعضاء مجلس الامة، التي تستمر بكل أبعادها وبأقصى درجاتها، بنوعيها الموضوعي والإجرائي في هذا الوقت.
وما يلاحظ أن مقدمي الطلب يركنون في أسباب تقديم طلبهم إلى بعض الممارسات النيابية خلال الفترة الماضية، من تطاول على ذمم الناس، والتعرض لكراماتهم، وهو الأمر الذي بكل تأكيد لا نقره ونرفضه، ولكن لا يمكن أن نسقط ممارسات البعض على الدستور، وإنما يتم ذلك من خلال تفعيل مواد اللائحة الداخلية للمجلس.
لذلك، فإن أكبر التحديات التي يواجهها الدستور هي ممن يدعي حمايته، خصوصاً أن مواجهة تخوفات البعض من الانحراف بالممارسة النيابية يقع على المجلس بتحمل النواب مسؤولياتهم من واقع تفعيل المواد:
مادة 88
«لا يجوز للمتكلم استعمال عبارات غير لائقة أو فيها مساس بكرامة الأشخاص أو الهيئات أو إضرار بالمصلحة العليا للبلاد، أو أن يأتي أمراً مخلاً بالنظام، فإذا ارتكب العضو شيئاً من ذلك، لفت الرئيس نظره، وعند الخلاف يفصل المجلس في الأمر دون مناقشة».
مادة 89
«للمجلس أن يوقع على العضو الذي يخل بالنظام أو لا يمتثل لقرار المجلس بمنعه من الكلام، أحد الجزاءات الآتية:
أ – الإنذار.
ب – توجيه اللوم.
جـ – منع العضو من الكلام بقية الجلسة.
د – الإخراج من قاعة الاجتماع مع الحرمان من الاشتراك في بقية أعمال الجلسة.
هـ – الحرمان من الاشتراك في أعمال المجلس ولجانه مدة لا تزيد على أسبوعين.
ويصدر قرار المجلس بهذا الشأن في الجلسة ذاتها، وللمجلس أن يوقف القرار الصادر في حق العضو إذا تقدم في الجلسة التالية باعتذار كتابي عما صدر منه».
وهاتان المادتان لم تُفعلا بشكل جاد باستثناء الفترة الأخيرة، وأعتقد بأنهما كفيلتان لمواجهة مثل تلك الممارسات لو استمر المجلس في تفعيلهما.
كرامات الأشخاص
ومن المؤسف أن يشير الطلب إلى ما يتعلق بالسؤال البرلماني، وما قد يتضمنه من عبارات غير لائقة أو مساس بكرامات الأشخاص وفق المادة 134، في حين أن طلب التفسير يتعلق بالمواد 108، 110، 111، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا أنه محاولة لتحصين بعض ممارسات الفساد، حتى من السؤال البرلماني، وهو ما يقضي كلياً على الشق الرقابي للمجلس.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو، من يحدد أن ما استخدم من ألفاظ أو عبارات أو مستندات، بأنها تسيء إلى كرامات الأشخاص أو أنها تمس ذممهم المالية؟ أليس هو المجلس؟ إذاً، ما جدوى طلب التفسير؟ خاصة وإنه بعد صدور حكم المحكمة الدستورية بتفسير تلك المواد، وتم عرض موضوع تعرض أحد أعضاء المجلس بالإساءة إلى أحد الأشخاص على المجلس، ولم يحزُ مقترح توقيف العضو عن الحديث أو توقيع عقوبة عليه الأغلبية، فما جدوى طلب التفسير؟ علما بانه بالامكان ان يتحمل رئيس المجلس واعضاء مكتب المجلس مسؤولياتهم بمواجهة مثل تلك الممارسات، وهي التي تمت بالفعل خلال المجلس الماضي (مجلس 2009) من واقع رد بعض الاسئلة التي تشوبها شبهة عدم الدستورية خلال تفعيل المادة 122 من اللائحة الداخلية والتي تنص على:
«يجب أن يكون السؤال موقعا من مقدمه، ومكتوبا بوضوح وإيجاز قدر المستطاع، وأن يقتصر على الأمور التي يراد الاستفهام عنها من دون تعليق عليها، وألا يتضمن عبارات غير لائقة أو فيها مساس بكرامة الأشخاص أو الهيئات أو إضرار بالمصلحة العليا للبلاد.
فإذا لم تتوافر في السؤال هذه الشروط جاز لمكتب المجلس استبعاده بناء على إحالة من الرئيس، فإن لم يقتنع العضو بوجهة نظر المكتب، عرض الأمر على المجلس للبت فيه من دون مناقشة، وذلك قبل اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في المادة 123 من هذه اللائحة».
أبرز الملاحظات
من الممكن إيجاز ملاحظاتنا على طلب التفسير بعدد من النقاط هي:
• الطلب يأتي مخالفا لما جبل عليه المجلس بالدفع لدى المحكمة الدستورية بكل الطعون الدستورية السابقة بعدم اختصاص المحكمة الدستورية بتفسير مواد الدستور، والتي تأتي بالمخالفة للمادة 173 من الدستور.
• الطلب من شأنه ان ينسف ما استقرت علية الديموقراطيات العريقة لمفهوم الحصانة البرلمانية.
• الممارسات الخاطئة من البعض لمفهوم الحصانة البرلمانية لايمكن اسقاطة على الدستور وتجربتنا ومكتسباتنا الديموقراطية.
• الطلب من شأنه ان يلغي احد اهم المكتسبات الدستورية منذ صدور الدستور وهو مفهوم الحصانة البرلمانية.
• من المؤسف ان يأتي هذا الطلب بعد مضي ثلاثة اسابيع فقط من بدء المجلس اعماله، فهل هذه الفترة كافية لمعايشة مثل تلك الجوانب.
• قد يفسر البعض ان وراء هذا الطلب اطراف تضررت من الدور الرقابي للمجلس والمراد تحصينهم من هذا الدور الرقابي.
• الطلب وما يهدف اليه يعطل، بل يلغي، شقا مهما للدور الرقابي للمجلس.
• الطلب يعطي حصانة مطلقة لغير العاملين بالمؤسسات الحكومية من الدور الرقابي للمجلس ويبعدهم عن المساءلة عن اي ممارسات فساد او اضرار بالمال العام.
• الطلب مبني على افتراضات غير واقعية ولم تشهدها تجربتنا الديموقراطية على مدى الـ 50 سنة الماضية بهدف خلق حالة من الوهم لاقناع الرأي العام بطلب التفسير.
• يشهد تاريخ المجلس تصديه لطلبات التفسير استشعارا منه للانعكاسات السلبية لمثل تلك الطلبات، حيث يحضرني تصدي الأخ الفاضل عبدالله الرومي لأحد الأحكام التي تمس حصانة عضو مجلس الامة بما يتعارض مع الموادة 108 / 110 من الدستور، حيث تدخل بالمحكمة نيابة عن المجلس وقام بتقديم مذكرة تعكس رأي المجلس الرافض لهذا الاخلال الدستورى، فهل يأتي اليوم مجلس الامة ليتبنى مثل هذا الاخلال؟
• سبق وان قاد عبدالله الرومي خلال فبراير 2011 مبادرة شخصية بالطلب من الحكومة بسحب طلب تفسير سبق وان تقدمت به لتفسير بعض مواد الدستور (100و101و111و163)، وبفضل الله ثم جهود الرومي قامت الحكومة بسحب الطلب، فهل يأتي الآن مجلس الامة لتقديم مثل تلك الطلبات؟ فعلا انه امر مستغرب.
• هل يعقل ان تتراجع الحكومة عن طلب تفسير المادة 111 من الدستور خلال فبراير 2011، ويأتي المجلس بتقديم طلب التفسير نفسه خلال يناير 2012 ؟ انه فعلا امر مستغرب. فهل الحكومة احرص من المجلس على احترام الدستور؟
• الطلب يأتي من باب المبالغة بالضمانات للسلطة التنفيذية، وهو الامر الذي يخالف ما ورد بالمذكرة التفسيرية للدستور تحت الفقرة ( ب – قدر الدستور – من الناحية الثانية – ضرورة الحذر من المبالغة في ضمانات السلطة التنفيذية).
• يذهب الطلب إلى انه لايمكن الحديث عن اي قضايا فساد او ممارسات مخالفة للقانون الا من خلال احكام نهائية يمكن ان يستند اليها عند عرض تلك الموضوعات على المجلس او لجانه، وهو الامر الذي يتنافى مع مبدأ الرقابة والحد من التجاوزات وحالات التعدي على المال العام قبل وقوعها.
• الطلب تعدى مقصوده الاستفهامي من خلال تفسير بعض مواد الدستور إلى توجيه القضاء بكيفية التصرف في حالة عدم موافقة المجلس على رفع الحصانة من واقع سرده إلى اربعة اسباب يمكن الركون اليها بالتعامل مع حالات عدم رفع الحصانة، الامر الذي يخل بأبسط مبادىء فصل السلطات وفق المادة 50 من الدستور التي تنص على مايلي:
أن المجلس هو المختص بتحديد الجزاءات التي تقرر على العضو في حالة مخالفته للائحة، فكيف تتصدى المحكمة الدستورية لتحديد او اضافة جوانب جديدة في حالة مخالفة اعضاء المجلس للائحة الداخلية؟ الامر الذي يفسر بالنهاية عدم دستورية الطلب لتعارضه مع المادة 50 من الدستور التي تؤكد فصل السلطات وتعاونها، وعليه فان تصدي المحكمة الدستورية لايمكن تفسيره الا تدخلا باعمال المجلس.
• الطلب يعكس بالنهاية، سواء كان بقصد او من دون قصد، انه بمنزلة اضافة مواد للدستور، وهو الأمر الذي يعتبر في النهاية تنقيحا وعبثا فعليا بالدستور.
عادل عبدالعزيز الصرعاوي
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق