محمد المقاطع: السرِّية المصرفية.. وحدود التحقيق البرلماني


الأصل العام والراسخ في النظم القانونية، وكذلك في المبادئ الدستورية في الكويت بشأن الحسابات المصرفية، هو سريتها لدخولها ضمن عناصر الذمة المالية للشخص، ومن ثم لها حماية وسرية، باعتبارها من مكونات الحياة الخاصة المحمية بأحكام عدة في الدستور، خصوصاً المادة 30 منه، وهو ما تناولناه في كتابنا «حماية الحياة الخاصة» (1992). ومن ثم، فانه لا يجوز للتحقيق البرلماني، الذي هو تحقيق سياسي، أن يجري مجرى التحقيق الجنائي في تناوله مثل هذا الموضوع لاختلافهما طبيعة ونطاقا وكيفية وغاية، وهو ما حسمته المحكمة الدستورية في قرارها التفسيري رقم 1 لسنة 1982.

والى جوار الأصل العام يوجد الاستثناء والخاص بفكرة الخروج على المبدأ ترجيحا لمصلحة عامة راجحة على مصلحة خاصة مرجوحة، الا أن ذلك يتم وفقا لقيود وضوابط منطقية وطبيعية تقتضيها دواعي اعمال الاستثناء بدلا من الأصل، وهذه القيود والضوابط التي ترد على التحقيق البرلماني السياسي التي تتوافق مع طبيعته تتلخص في ما يلي:

1 ـــــ لا يجوز أن يكون طلب البيانات المالية عاما ومطلقا، وانما ينبغي أن يكون محددا بعملية بذاتها أو عمليات لها صفة محددة أو معرّفة مثل «عمليات مشبوهة»، سواء بمعيار يتبناه البرلمان ويتفق عليه مع الجهة الفنية الحكومية، أو أخذا بالمعيار المهني المتعارف عليه بهذا الخصوص، واذا ما تخطى التحقيق البرلماني ذلك، فقد تجاوز الحدود الممكنة له دستوريا.

2 ـــــ انه لا بد من أن تحاط المعلومات التي يستحصل عليها البرلمان في هذه الحالة بضمانات تعزز سريتها وتمنع نشرها أو تداولها خارج نطاق لجنة التحقيق أو أعضائها، فالاستثناء لا يتوسع به ولا يقاس عليه وهو اجراء من اللازم الاتفاق عليه بشكل صريح لتتحقق تلك الضمانات.

3 ـــــ ان المعلومات التي تتعلق ببيانات مصرفية عن حركة أموال الدولة الواردة ضمن الميزانية أو خارجها الأصل فيها امكانية تعقب حركتها من لجان التحقيق البرلمانية لاندراجها في نطاق أعمال الحكومة، ومن ثم فهي محل للمساءلة السياسية. ولذا، فالطلب للتعرف على حركتها لا يقدم الى البنك المركزي أو البنوك التي هي وسيط وطرف ثالث، وانما يوجه للحكومة ممثلة برئيسها، لأن صرف أو نقل بعض الأموال العامة الواردة بالميزانية أو خارجها تُسأل عنه الحكومة، وليس البنك الذي ينفذ تعليمات العميل وتوجيهاته.

4 ـــــ ان البنود التي وردت في الميزانية ضمن المصروفات السرية في قانون الميزانية الذي أقره البرلمان، تقديرا منه لهذه الطبيعة، لا تدخل ضمن ما يجوز الكشف عن تفاصيله اكتفاء بذكر أنه ضمن البنود السرية.

5 ـــــ انه لا يجوز أن ينتقل التحقيق البرلماني من هذه الطبيعة ليصبح تحريات تتشابه، والتحريات التي تجريها أجهزة الادارة التي تتصف بالضبطية القضائية ولا التحريات التي تجريها النيابة، فتلك طبيعة تقتصر على تلك الجهات لاختلاف طبيعة ونطاق وكيفية وغاية التحقيق الجنائي عن التحقيق البرلماني السياسي، ولذا فالتفتيش وتعقب البيانات وجمع الاستدلالات وما شابه من أعمال التحري ليست جائزة.

6 ـــــ انه ليس جائزا الطلب من الجهات الحكومية القيام بمهام التحري، سواء تمثل بجمع البيانات أو تحليلها أو التوليف بين شتات من البيانات لخروج ذلك عن نطاق التحقيق البرلماني المقتصر على طلب البيانات والوثائق والمستندات.

7 ـــــ لا يجوز التهديد بصورة متكررة لمن يحضر أمام لجنة التحقيق البرلمانية بأنه ستتم احالته الى النيابة، لمجرد أنه أجاب بما لا يوافق رأي عضو أو أكثر من أعضاء اللجنة، لأنه ليس هذا هو مقصود حكم المادتين 8 و9 من اللائحة، وفي نهاية الأمر اللجنة توصي بذلك بناء على مبررات صحيحة لرئيس مجلس الأمة الذي له قبول تلك التوصية من عدمها، ثم ترفع للحكومة التي قد تأخذ بها أو لا تأخذ تبعا لتقديرها.

8 ـــــ ان الحدود والضوابط المذكورة تشكل أساسيات الإطار القانوني والدستوري للموازنة بين اعتبارات الحفاظ على اعمال التحقيق البرلماني واعتبارات حماية الخصوصية والأسرار المصرفية، مع ضرورة التنويه الى أن ما يدخل في اختصاص لجان التحقيق البرلمانية فقط هو ما يدخل في نطاق أعمال الحكومة ويخرج غير ذلك عن اختصاصها.

اللهم إني بلغت.

أ.د. محمد عبدالمحسن المقاطع

dralmoqatei@almoqatei.net
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.