التأمل في التمييز الذي يمارس ضد المواطنة الكويتية أو المتجنسين أو حتى المواطنين الكويتيين بالجملة، يدفع بالمعنى الحقيقي الى التساؤل عن سبب صمتنا، مؤسسات وتنظيمات وأفراداً، عن هذا التمييز طوال السنوات السابقة. اذا كان مفهوما أو ربما مقبولا ان تنقسم البلاد ويختلف العباد حول قضايا سياسية أو قانونية عابرة كمرسوم الصوت الواحد، فان الغريب ان يتم الصمت المطبق والمتواصل عن الاخطاء والخطايا التي ترتكب ضد الافراد أو الجماعات، لا لشيء، إلا لانها تتوافق وموروثاتنا ومعتقداتنا القديمة المتأصلة في الجميع.
اذا كان طبيعيا أو ضروريا عند البعض ان يخرج في تظاهرات وتجمعات متواصلة ضد مرسوم الصوت الواحد، فلماذا لا يتم التجمع يوما للمطالبة بحقوق نصف المجتمع الكويتي! أو بقية المسلوبة أو المتجاهلة حقوقهم من بقية المواطنين؟ هذا التساؤل يدفع بنا الى التساؤل الحقيقي، وهو: لماذا تغيب القضايا الاجتماعية والملحة عن اهتماماتنا كتنظيمات سياسية وأفراد؟
مشكلتنا كعرب، اننا تشربنا «النضال» ضد السلطة التي تمثلت في ظروف طويلة وعديدة بالاجنبي المحتل. لذلك ترافقت «الحرية» مع التحرر من الاجنبي والتصقت به لدرجة انها فقدت معناها العام. تماما كما ان السلطة تمثلت في الاجهزة الامنية والادارية وانحصرت مقاومتنا لها في سلطة الدولة، اما سلطة المؤسسات الاجتماعية، واما سلطة التقاليد والموروث فقد بقيت رايتها بيضاء وسمعتها العامة جيدة وحسنة لم تطلها حتى الشكوك أو الاتهامات. واذا لاحظنا ان الانسان عندنا «يدرب» منذ الصغر على ان يكون عبدالله أو الحقير لله – كما يسمي البعض نفسه – فاننا يمكن ان نتفهم بيسر وسهولة لماذا الاستعباد مقبول، ولماذا الخنوع للسلطة سمة عامة في المجتمعات العربية.
لقد قضينا سنوات بل عقودا، وربما قرونا، نحارب «السلطة»، ونثور على مؤسسات الدولة. نسعى الى الاهداف الكبرى في الحرية والاشتراكية والوحدة، بينما قضايا المجتمع ومشاكله اليومية والملحة تعصف بنا من دون ان يعنى بها أو يعترض على اهمالها احد. نطرح قضايا التنمية القومية وتنويع مصادر الدخل ونغض النظر عن المناهج القديمة والمدارس الهالكة. هناك هروب مقصود ومتعمد عن مواجهة القضايا الحقيقية واستبدالها بشعارات وهمية أو مطالب حالمة ليس لتحقيقها فرص على أرض الواقع.
سنوات ونحن نحارب السلطة والحكومة، بينما التخلف والعدو الحقيقي كامن في نفوسنا وقابع في ذواتنا. موروثنا وتقاليدنا هي سبب التخلف، والسلطة كما اكدنا مرارا وتكرارا لم تأت من المريخ أو من كواكب ابعد، بل نمت وترعرعت وتشربت الأفكار والتقاليد والاعراف ذاتها التي خلقناها وأكدناها ولا نزال نصونها ونحرسها نحن. لهذا مرت خمسون سنة والمواطنة الكويتية تضطهد، ومرت خمسون سنة واغلبية اجتماعية لا تزال درجة ثانية، ومرت خمسون سنة وبعض المواطنين يضطهدون بسبب الدين أو المذهب أو الأصل، ومع هذا فكلنا ديموقراطيون وكلنا حماة الدستور الذي ساوى وكفل العدالة لكل الناس.
لن يكون هناك تقدم الا اذا فهمنا ان التحرر لم يعد استقلالا أو تحررا من الاجنبي، بل تحرر من قيود الماضي وتراث الأمس ومعتقداته التي لا تزال تتحكم في تفكيرنا ويستغرق غرسها واستذكارها جل وقتنا. منذ ان تعلمنا الكتابة ونحن نعيد ونكتب الحروف والكلمات ذاتها، الآيات والأحاديث ذاتها، الروايات الموضوعة والحكم والأمثال المصنوعة ذاتها. منذ ان تعلمنا الحفظ، ونحن نحفظ الاشعار ذاتها والحكم ذاتها والقصص القديمة ذاتها. مناهجنا لا تزال تحض على الكرم فيما مطاعم «الفاست فود» تملأ المدينة وتعنى بغرس الشجاعة والاقدام في الناشئة انفسهم، والعالم يتحارب تحت الانفاق ومن السراديب وعلى بعد آلاف الاميال. لا نزال نُعد المواطن كي يعيش في القرون التي مضت، هذا ان كان محظوظا في الواقع، لان اغلب المناهج والدراسات والاهتمامات معنية باعداد «العبد» – الذي دربناه على الخنوع – للقاء ربه في اليوم الآخر.
لدينا ازمات ومشاكل وقضايا اجتماعية، ليس من المفروض ان يكون هناك خلاف على حلها. لكننا نتهرب من مواجهتها عبر اختلاق العدو الوهمي، الامبريالية بالامس والسلطة هذا اليوم.
ان العدو الحقيقي هو نحن، من يعيق التنمية هو الانسان المتخلف الكامن في ذات كل منا وليس هناك مع الاسف استثناء. من يقيد الحريات ويطالب باغلاق وسائل الاعلام نحن وليس الامبريالية أو السلطة. من يسرق المال العام ويهدر الثروة الوطنية نحن وليس الحرامية الوهميين. من يضطهد الآخر ويقمع صنوه المواطن نحن وليس الاجهزة القمعية المزعومة. ويكذب من يزعم ان «الزرق» لم يحرضوا السلطة على «البرتقاليين» وان الأخيرين لم يستنكروا تسامح السلطة مع مناوئيهم.
اعتقد، بعد عقود من النضال المزعوم، ضد الاعداء الوهميين، المطلوب اليوم «التحرر» ومواجهة العدو الحقيقي وهو الموروث والتقاليد التي لا تزال تهيمن على عقلية ونفسية الفرد والمجموع. ان المطلوب اليوم التحرر الكامل، بل الانفصال الحقيقي عن معتقدات الامس وموروث الآباء والاجداد. هذا لا يعني طمرها أو حرقها، بل يعني بوضوح اعادة تقييمها واخضاعها رفضا أو قبولا لمقتضيات العصر وللظروف الموضوعية وليس كما هي الحال الآن، تطويع ظروفنا ومعيشتنا كي تتلاءم مع خرافات وخزعبلات القرون التي مضت.
هذه دعوة مباشرة لاطلاق وانشاء «حزب الاحرار». حزب وليس حركة أو اتحادا أو تجمعا أو تحالفا أو بقية التعريفات، التي حاولت الاحزاب اخفاء حقيقتها تحتها هربا من ادانة الدكتاتورية الناصرية للاحزاب. واحرار بمعنى انهم يتعاملون مع الظواهر والحقائق وفقا لطبيعتها وكنهها وليس تبعا لافكار ومعتقدات مسبقة. أي انهم متحررون من الموروث ومن التحيز للانا والتمييز ضد الغير. آن ان نضع التحرر في مكانه الصحيح، وهو التحرر من الماضي ومن احكامنا ورؤانا المسبقة لليوم والغد.
لا يمكن ان يكون الانسان حرا، وهو ما يدعيه اغلب نشطائنا السياسيين، وهو «عبد» للموروث. ولا فرق هنا في نوعية الموروث، تقليديا أو قوميا أو حتى أمميا، وهو ما تقبله بعض الشيوعيين العرب بحكم حاجتهم «التاريخية» لوصاية الغير وهيمنته، اذ يبقى كل هذا في النهاية خضوعا وعبودية تأصلت مع الاسف في الذهنية والنفسية العربية الاسلامية منذ قرون.. ولا تزال.
عبداللطيف الدعيج
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق