ناصر العبدلي: أمن دولة

أيام الاستعمار الفرنسي للبنان كان هناك معسكر قريب من العاصمة بيروت، وكان أحدهم يبحث عن شعبية سياسية لاستخدامها في انتخابات محلية، وقد تفتق ذهنه عن فكرة التحرش بالمعسكر الفرنسي، من خلال قذفه بالحجارة كرمز لمحاربة الاستعمار، لكن بعد حجر أو حجرين فاجأه المسؤول عن المعسكر بسر في أذنه «مهما فعلت فلن نرد عليك حتى لا تكتسب الشعبية التي تبحث عنها».
مسؤول المعسكر الفرنسي أحجم عن منح ذلك المواطن الشعبية التي يبحث عنها، لكنه حسبما ينقل صنع أبطالا آخرين اكتسبوا الشعبية التي يبحثون عنها من خلاله، وأصبحوا أعضاء في مجالس محلية ورموزا يتحدث عنها الشارع، باعتبارها رموزا وطنية، وكم مررت مثل تلك الأجهزة الاستعمارية علينا من تلك الرموز، بدءا من الثورة العربية الكبرى، مرورا بانقلابات الستينيات من أجل فلسطين وتوقفا لا انتهاء عند «الربيع العربي».. فجعبة «الحاوي» مليئة بالرموز والمفاجآت الثورية!
صنع البطل الشعبي الذي يلهب خيال الجماهير ويجرها إلى النصر الوهمي فيلم «هندي» قديم، تقف دائما خلفه أجهزة، سواء أكانت تلك الأجهزة «كارتيلات» اقتصادية أو سياسية أو أجهزة أمنية بحتة، ولو نبشنا ملفات المخابرات الأجنبية والعربية لوجدنا مئات الأبطال في عالمنا الإسلامي والعربي «يتمردغون» في ملفاتها، ومع ذلك، مازال الفيلم الهندي ينطلي على الجماهير البائسة لتستمر في تصفيقها.
هناك من استنسخ ذلك الفيلم الهندي محليا خلال فترات ماضية، واستخدم الأجهزة الأمنية مثل جهاز أمن الدولة لصناعة البطل المحلي الذي ألهب خيال الجماهير هو الآخر، وليس أي جماهير بل جماهير محددة بعينها من أجل هدف، وما علينا سوى مراجعة تلك الفترات، والمسؤول عنها، لأنها لم تحدث إلا في فترة ذلك المسؤول حتى نعرف عمن نتحدث ومن نقصد.. وسنجد أن بعض أولئك الرموز قد انطفأ نجمه، وبعضهم مازال يتصدر المشهد السياسي على أنه بطل معارض، وبقايا تلك الأجهزة مازالت تنفخ فيه بعدما تمكنت من صنع أجهزة موازية، لأن المهمة لم تنته بعد.
الجماهير بسيطة في تفكيرها ومازالت تنطلي عليها نفس الفكرة ونفس الفيلم الهندي، خصوصا لدينا في الكويت، وحتى لو صنع رمز جديد بعد هذا المقال بنفس الآلية ونفس الأفكار فستجري خلفه الجماهير بكل تأكيد.. فهذا طبع الجماهير في أي بقعة في العالم، وهو البحث عن البطل الوهمي الذي يستطيع أن يقذف الآخرين في البحر، والذي يستطيع «لم» سراق المال العام والمتنفذين ووضعهم في حقيبة واحدة وإرسالهم إلى الجحيم خلال 48 ساعة فقط.
بطل الجماهير لا يسمح لأحد أن يمسها وسيكون حاجزا بين تلك الجماهير وبين من يحاول أن يؤذيها وربما يضحي بنفسه من أجلها، وهي تعيش (الجماهير) فعلا هذا الوهم وتتنفسه كما تتنفس الهواء، لأنها من دون ذلك البطل الوهمي لا تستطيع أن تعيش.. فقد تعودت على أن يده تربت على كتفها لتطمئن قبل النوم أنه موجود دائما ليحميها، وأنها تستطيع (الجماهير) أن تنام ملء جفونها من دون خوف، لكنها مع كل ذلك لا تعلم أن من يربت على كتفها حقيقة هو جهاز أمن الدولة على شكل بطل وهمي.
المصدر جريدة الكويتية

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.