تهبّ نيران الاتهامات نحو المثقفين عند تأزم الأحداث اليومية وتصاعدها، كما يحدث اليوم في الكويت مع تزايد الأسماء في قائمة المعتقلين بسبب الرأي أو الكتابة في “تويتر” أو المشاركة في مظاهرات بذريعة العنف أو عدم الترخيص، وتنحصر الأسئلة حول أسباب صمتهم كمفكرين وكتّاب وأدباء طالما نادوا من أجل الحريات وتعزيز القيم الإنسانية، يأتي الغضب موسوما بالانفعالية والإلحاح على رأي “مباشر” إثر كل حادثة، وهنا تبرز أسئلة قديمة، جديرة بالتفكير دوما حول مسؤولية المثقف ودوره في المجتمع إزاء الأحداث اليومية، نظرا لأهميته وفاعليته وإن حاول البعض أن يبدي ذلك باهتا بتمريغهم بالترف والبرجوازية وإحالتهم إلى أنظمة اقتصادية تداول المال وتدفن الرؤوس!
المثقفون هم الأكثر تعرضاً للتهميش وتلقّي الاتهامات وتسفيه آرائهم، وهم الأكثر تعرضاً للاعتقال والمحاكمة لأنهم يعبئون صرخاتهم في صحائف أعمالهم منشورة، وأعني منهم المثقف الحقيقي، إنه الذي “لم يتوافر على توكيل من أحد، ولم يتلق وضعه في المجتمع الحديث من أي سلطة”، كما قال سارتر، واصفا نكاية المجتمع به: “لا أحد يطلبه، ولا أحد يعترف به، لا الدولة ولا نخبة السلطة، ولا جماعات الضغط، ولا أجهزة الطبقات المستقلة ولا الجماهير”.
في جلسة تحدث فيها الأديب إسماعيل فهد إسماعيل ضمن نشاط ثقافي شبابي خلال فترة معرض الكتاب الدولي في نوفمبر الماضي، وجه إليه سؤال شبيه، عن أسباب التركيز على محاربة الرقابة على الكتب ومحاكمة الفكر بعيدا عن الأحداث اليومية، وبرصانته المعتادة المهمومة بالعالم وأسى المجتمعات أجاب بما معناه أن “دفاع المثقفين عن حرية الرأي والتعبير وإصرارهم على قيم التسامح وقبول الآخر كقضية أساس؛ كفيل بالانتصار لكل إنسان اعتقل بالأمس أو اليوم أو تفتح السجون مصراعيها لالتهامه…”، ودقق في مسألة اعتبارية “الاعتقال” ونسبيتها ما بين إجراء روتيني غير بريء لكنه ينتهي خلال ساعات أو أيام أو أحكام بكفالة، واعتقال متعسف مجهول المصير كما يحدث في دول لا يعتبر البشر فيها سوى أرقام قابلة للمحو، وأجساد تعود فاقدة الأعضاء أو الذاكرة أو الوجود بالمطلق، مؤكدا مطلب الحرية ومن دون تنازل عنه.
وبإشارة إسماعيل المثقف الذي يعرف الوضع “هنا” جيدا بشمولية اطلاعه ووعيه السياسي والاجتماعي والثقافي وخبرته العريقة بلا معزل عن همه الإنساني؛ مفتتح لي شخصيا، ولمن سأل عن حضور المثقف موهوم الغياب، لتأكيد حضور “الرفض” واستمراريته بالمظاهرات أو بدونها، لأن الفعل الكتابي والآراء تدون خطواتها ولا تبارح الأمكنة، وتقض السجون، وتوقظ الضمير الغافل؛ هكذا رأيتها، وهكذا يؤكد اعتقال “الكلمة” ومحاسبتها المتضخمين اليوم قبل أي فعل آخر، وإلا فما يعنيه حبس إنسان بسبب قصيدة أو تغريدة أو إقامة محكمة قضاياها تداول النوايا؟!
جُلّ ما نحتاجه هو هدنة تفسح المشهد لترتيب أولوياته، كي لا تضيع قضايانا الأهم من بين المهم كله، ولا يتوه الحق تحت ركام ما رافقه من أخطاء، بقراءة عقلانية تقرأ الوجوه والأمكنة والأحداث لتصنع التغيير، ولا ترتجله مع كل صوت يحترف التنديد والصراخ، وإلا فالقلوب مليئة بما يقيم مآتم وحروباً لا تنتهي! لنترك لكل حقه في التعبير عن رأيه بالسلوك الذي يرتضيه دون تخوين ما دام صادقا وغير مهادن، وما دام اختار الكشف ولم يلذْ بالصمت، تسلل سارتر إلى قاعات دروس الطلبة بأطراف أصابعه… كان سبب صدامه العنيف مع السلطة يوماً!
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق