بعد سقوط النظام في العراق في ٢٠٠٣، أرادت الأمم المتحدة تكوين رؤية لكيفية التعامل مع أركان النظام السابق إذا تم القبض عليهم. كنت واحداً من خمسة خبراء في مجال العدالة الجنائية الدولية ممن وقع عليهم الاختيار من دول مختلفة، والتقينا في بغداد. كانت الحالة العامة مرتبكة وخطيرة وقلقة، حتى الهواء كان قلقاً. الجو كان ساخناً بلا كهرباء إلا للمصعد في فندق فلسطين بقلب بغداد، اجتمعنا بسيرجي دي ميللو ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في فندق القناة، الذي اتخذته الأمم المتحدة مقراً لها، والذي تم تفجيره في أغسطس وذهب ضحيته صديقنا سيرجي، الذي كان رحيله خسارة للعراق، كما خسره العالم. لم نكن قد نسقنا كخبراء في ما بيننا، حيث إننا كنا قد جئنا من أماكن مختلفة. إلا أن اتفاقنا نحن الخمسة كان لافتاً للنظر بأن السبيل الأمثل لمحاكمة أركان النظام السابق هو بإنشاء محكمة دولية مستقلة. كان واضحاً أن سيرجي متفق معنا إلى حد بعيد. كان رأينا ينطلق من أن أي صيغة أقل من محكمة دولية ستكون مشابهة لمحاكمات نورمبرغ وطوكيو، التي شكلتها القوات المنتصرة في الحرب العالمية الثانية لمحاكمة المهزومين من ألمان ويابانيين وغيرهم، والتي لم تنجح كل محاولات تجميلها ليتم وصفها تاريخياً بأنها “عدالة المنتصر” وهكذا كانت، فذهبت مثلاً في التاريخ، ولم يعد لها وزن يذكر في تطور القانون الجنائي الدولي. كان ذلك الاجتماع تمهيداً لاجتماع أكثر صخباً وتسييساً، حيث انتقلنا إلى مواجهة جمهور من المحامين والقضاة والمهتمين من العراقيين وبعض المسؤولين الأمريكان، وكان من ضمن الحضور القاضي كامبل الذي كان يقوم بمهام وزير العدل. وقد كلفني زملائي الخبراء تقديم وجهة نظرنا التي عرضتها بالعربية. إلا أن رأينا تم رفضه بشكل قاطع من العراقيين والأمريكان على حد سواء، وكان لكل منهم أسبابه. طرحنا حلاً وسطاً بأن تكون المحكمة مختلطة، نصفها عراقي والآخر دولي، فتم رفضه أيضاً، فطرحنا أن تنشأ محكمة عراقية مع هيئة استشارية دولية إلا أن ذلك تم رفضه أيضاً، وهكذا انتهت مهمتنا عند هذا الحد، ولم يؤخذ برأينا. غادر زملائي العراق بالطائرة ومكثت بعض الوقت للقيام بمتابعة بعض القضايا الإنسانية بتكليف من بعض المنظمات الدولية غير الحكومية، وكذلك البحث عن خيوط قد تقودنا إلى أسرى ومفقودي الكويت، مما اضطرني إلى البقاء هناك مدة أطول من المتوقع لحين عودتي عن طريق البر لاحقاً.
وهكذا جرت المحاكمات، كما شهدها العالم، بمنطق عدالة المنتصر، مفتقدة المعايير الدولية للمحاكمات العادلة، وتم من خلالها إيقاع إعدامات مقررة سلفاً، وهو ما كان يطرح التساؤل المشروع، إن كان القرار قد تم اتخاذه بإعدام أركان النظام فلماذا إذاً الإصرار على أن يتم ذلك من خلال محكمة؟ وها نحن الآن بعد مضي قرابة ٩ سنوات على سقوط النظام، والعراق يعيش في أجواء احتقان طائفي وعرقي محتدم، هل هناك فرصة للاطمئنان إلى أن أحكام الإعدام ستصدر دون تحيز؟
ويجرنا الموضوع إلى ما كان يجري في العراق في حقبة ما أطلق عليه “الحملة الإيمانية”، التي امتدت من منتصف التسعينيات إلى أكثر من عشر سنوات لحين السقوط، والتي كان القتل والإعدام داخل أو خارج إطار القضاء يتم فيها باسم الدين… وللحديث بقية.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق