أنا إن متُ أفيكم يا شباب
شاعرٌ يرثي شباب العسكر..
فهد العسكر شاعر مجدد له نزعة وطنية، وقومية، وفي الوقت الذي برز في المجتمع في الثلاثينيات والاربعينيات، كان المجتمع مغلقا متعصبا لماضيه، لا يقبل التجديد، ولا الطرح الفني، فيحاسب الشاعر على ألفاظه الظاهرة وما كان يقوله فهد العسكر من صور فنية وخيالية تحمل محمل الواقع وشبيه خياله من خيال الشاعر القرشي الذي ابتدع الصور الفنية في شعره وصاغ حوارات جميلة بين النساء فهو المعشوق الذي تطارده النساء ويلاحقنه، واغلب ذلك من صنع خياله انه عمر بن أبي ربيعة.. فكان المجتمع العربي في الحجاز يراه فاسقا لعوبا يحمل كل خياله الى الواقع، هكذا كان فهد العسكر، رجل بائس فقير من اين له حتى يحاور النساء الاجنبيات في مدينة الاحمدي التي كانت مغلقة على العامة، ولا تحتضن الا الاثرياء، حيث النوادي الليلية المقصورة على المشتركين في النوادي، ويحظر اللباس في الزي الوطني ولا يدخلها الا من كان من الموسرين والمسؤولين الذين يعملون في نطاق شركات النفط.. هذا الرجل البائس الفقير القابع في حجرة فوق المحلات الشعبية بسوق الحراج (سوق واجف).. اخذه خياله الشعري الى الاحمدي حيث يخاطب ويغازل فتاة اجنبية:
بأبي وأُمي من مُددتُ لها يدي
بعد العشاءِ مصافحاً في «الأحمدي»
غيداء عرّج بي عليها أَغْيدٌ
في دارها، أنعم بذاك الأَغيد
ذُقْتُ الهوى وكأنني ما ذقته
حتى دخلتُ ولامست يدَها يدي
وفي نهاية القصيدة:
فاليوم قادَتْ من تُحبُ لدينها
وغداً يَعودُ بها لدين محمد
صور فنية جميلة وقدرة هائلة على التصوير وكأنه من عمل الواقع.. ولم يتوقف عن صياغة خياله في مخاطبة الحسان.
في سنواته الاخيرة من حياته كفَّ بصره حتى ظل رهين المحبسين بتعبير أبي العلاء المعري:
يا ميُّ ناب السّمعُ عن بصري
في الليلة الظلماء من صفر
ماذا أقولُ وإن شكوت فمنْ
جور القضاء وقسوة القدر
الصدرُ منقبضٌ ولا عجبٌ
والنفسُ نهبُ الهمِّ والضَّجر
***
وكان الشاعر فهد العسكر يستفز رجال الدين ويدخل في غزلية له، كانت مثار غضب المجتمع فالتي همت به كان ذلك في يوم العيد النبوي الذي له قدسية عند المسلمين، وذلك في فجر هذا اليوم بينما كان أبوها عاكفٌ في المسجد يُصلي الفجر.. انه تصوير فني دقيق ولكنه يخدش المشاعر سواء لرجال الدين أو غيرهم من أفراد المجتمع:
بأبي هائمة زفت لهائم
طَرَقَتْني فَجْرَ يَوْم الموْلدِ
وأَبوها عَاكفٌ في المسْجِدِ
فَالْتَقَى الثَغْرانِ رَغْمَ الحُسَّدِ
وَكِلانا مُتْعَبُ القَلْبِ صَدي
***
غَادَةٌ لمْ تَخْشَ إِنْذارَ أَبيها
لا وَلَمْ تَحْفلْ بتَهْديدِ أَخيها
حينَ قَالَتْ أُمُّها قُومي اغْنمِيها
سَاعةً هيّا مَعي لا تَقْعُدي
***
فَارْتَدَتْ ثَوْبَ أَخيها وهو نَائِمْ
وأَتَتْ تَحْرُسُها والجَوُّ غَائِمْ
بأَبي هائِمَة زُفَّتْ لهَائِمْ
مُوجَعِ القَلْبِ جَريحِ الكَبِدِ
***
فَشَجا نَفْسيَ ما مَرَّ ببالي
حينَ أَبْكاها شُحُوبي وهُزَالي
قُلْتُ صُونيها فإِنَّ الدِّمْعَ غالي
أَدْمعاً للرّوحِ لا للجَسَدِ
***
ونَشَرْنا وَطَوَيْنا صَفَحاتِ
وَسَخرْنا منْ أَراجيفِ الوُشاةِ
وتَصَفَّحْنا سِجِلَّ الذّكْرياتِ
بُرْهَةً وانْدَمَلَ الجرَّحُ النَّدي
***
ثُم قَالَتْ وَرَذَاذُ المطَرِ
حَبَسَ الطَّيْرَ ولما يَطِرِ
هاتِ بنْتَ النَّخْلِ يا ابْنَ العَسْكَرِ
لا يُطاقُ الصَّحْوُ في ذا البَلَدِ
***
هاتِها بَيْضَاءَ منْ خَمْرِ العِراقِ
كمْ بها حَلَّقَ بالنَّدْمانِ ساقي
ولْنُعَاقِرْها مَعاً قَبْلَ الفِرَاقِ
ثَمْ قامَتْ ونَضَتْ ما تَرْتَدي
***
وفَضَضْنا ختْمَها والسَّعْدُ باسِمْ
وَسَكَبْناها على هَمْسِ النَّسائِمْ
وأَدَرْناها وأَنْفُ الشَّيْخِ راغِمْ
وَشَربْناها ولمْ نَقْتَصِدِ
***
يَدِ حَسْناءٍ تُعاطي الرّاحَ شاعِرْ
ذاتِ حسٍّ يَخْلبُ الأَلبابَ ساحِرْ
فجَبينٌ زاهِرٌ والجَفْنُ فاتِرْ
وَفَمٌ يُغْري وَشَعْرٌ عَسْجَدِي
***
يالمَرْأى شاعِرٍ يَسْقي غَريرهْ
وَيُناغِيها بأَلحانٍ مُثيرهْ
ولمرْأى غادةٍ نَشْوى صَغيره
وهيَ تَسْقيهِ وَكَمْ قالتْ: زِدِ
وَشَفَيْنَا إِذ سَكِرْنَا الغُلَلا
وَتَغَنَّتْ بهَوَانا، كيْفَ لا
فانْتَشَى الكَوْنُ وقدْ أَصْغى إِلى
صَوْتِها العَذْبِ الحَنونِ الغَرِدِ
***
وَاعْتَنَقْنا يا لَها منْ لحَظَاتْ
هيَ سِرُّ العَيْشِ بَلْ مَعْنى الحَيَاةْ
مَنْ رآنا خَالَنا صَرْعى السُّباتْ
آهِ لَوْ كانَ سُبَاتاً أَبَدِي
***
وَتَرَشَّفْنا حُمَيَّا القُبَلِ
وَتَرَكْنا النَّوْمَ لِلْغِرِّ الخَلي
وَتَحَدَّثْنا عَن المُسْتَقْبَلِ
وأزَحْنا الستْرَ عَنْ دُنْيا الغَدِ
***
وَأَفَقْنا فإِذا بالشَّيخِ قادِمْ
وَكِلانا مُطْمَئِنُّ النَّفْسِ ناعِمْ
وَافْتَرَقْنا وَلْتَقُمْ شَتى المزَاعِمْ
فَلَظَى، مَأوى الأَثيمِ المعْتَدِي
فهد العسكر شاعر مجدد اخذه خياله الى الغزل المكشوف والى الاسراف في وصف مجلس الشراب ويشار بإعجاب هنا إلى الاستاذ عبدالله زكريا الانصاري الذي جمع وطبع ما تيسر له من احتواء شعر فهد العسكر..
الى لقاء آخر مع هذا الشاعر في الجمعة القادمة.
عبدالله خلف
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق