سليمان الشاهين: التعاون بين المطرقة والسندان

تنهد الأخ الأستاذ عبدالله بشارة وهو يطالع الصفحة الثالثة عشرة من المطبوعة الأنيقة للمؤتمر الدولي لمجلس العلاقات العربية والدولية، ويقرأ تاريخ ميلاد سمو الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس وزراء ووزير خارجية دولة قطر الشقيقة قائلاً: تصور تاريخ ميلاده 1959، وقتها كنت أتأهب لاستلام الليسانس من جامعة القاهرة قسم اللغة الإنكليزية، فهونت الأمر عليه معلقاً نحن في عصر الشباب… وتبادلنا الابتسامات على وقع خطوات الرجل الواثقة تقوده إلى منصة الخطابة.
هكذا أطل سمو الشيخ حمد على الحضور وفي مقدمتهم سمو الشيخ جابر المبارك الحمد الصباح رئيس مجلس الوزراء في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، وتناولت الكلمة العوامل التي تحكم توجهات وعلاقات الوطن العربي مع العالم، وهي الكلمة التي تحمل بصمته وفكره، فهو يسجل ما يريد قوله بما لديه من مخزون أسراره، ويتولى جهازه الإداري صياغة الباقي.
المشهد تحيطه مهابة الصمت إلا من بقايا مسحة من مرارة انطلقت بشفافية وصدق من الكلمة الافتتاحية الهامة للأخ محمد جاسم الصقر رئيس مجلس العلاقات العربية والدولية في تشريحه للوضع العربي، وخلاصتها أن “العرب أمة مقهورة”!
شخصية سمو الشيخ حمد بن جاسم ليست عابرة في تاريخ شعبه ومحيطه، فهو ليس من الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، فلديه الذكاء ويمتلك السلطة والوسيلة وحظوة الثقة العليا، صقلته الأحداث الكبيرة بمقياس شعبه الصغير عدداً، وكما استطاعت محطة “الجزيرة” أن تتخطى حدود قطر إلى العالم الأوسع كذلك الشيخ حمد استطاع أن يتسع بحدود بلاده الدبلوماسية إلى آفاق أرحب بكثير من حدوده الجغرافية. بهذا المفهوم يستطيع المراقب لواقع المنطقة أن يحيط بأبعاد كل كلمة تسبق التحرك، فالاستماع المباشر لكلمته ينبئ بأن الأولويات لا يأتي ترتيبها بالضرورة في المقدمة، بل إن القراءة المتأنية للخطاب تقودنا إلى أن الأهم هو ما يختم به المرء مداخلته؛ لأنها الأبقى في ذهن المستمع. ومن هنا فإن المحطة التي أجبرتني على عدم تجاوزها هي مقترح الشيخ حمد بقيام منظمة للدول المطلة على الخليج العربي، وهو عنوان قد يكون جيداً لمشروع قد يكون جيداً أيضاً، ولكن متى؟
سأبحر مع عزيزتي الكويت في خضم هذا المقترح، إذ إن موقع دولة الكويت الجغرافي يمثل النقطة الأخطر في منطقة الخليج العربي، ذلك أنها تقع في ملتقى الوحدات السياسية والجغرافية الأكبر ممثلة في المملكة العربية السعودية والعراق وإيران، وهذا التماس في الحدود البرية والبحرية هو مكمن الخطورة، وكلما اختل التوازن بين هذه الكتل الثلاث لسبب أو آخر ارتفعت درجة الخطر، على أن صمام الأمان بالنسبة إلى الكويت في هذه المعادلة الثلاثية هي المملكة العربية السعودية الشقيقة بثقلها ونخوتها ووفائها، وجيلنا يعي تفاصيل هذه المبادئ عندما وضعت على المحك والاختبار مع غزو عراق البعث، ومازالت وستبقى مواقف قادة المملكة وشعبها نعيشها حياة وتاريخاً.
عراق اليوم كما هو بالأمس يملك 73 كيلومتراً على المياه المالحة في أقصى شمال الخليج من رأس البيشة إلى أم قصر العراقية، وربما زادت هذه المسافة قليلاً باستحداث بعض الجزر الصناعية، ومازالت قضية مداخل خور عبدالله في مد وجزر بيننا وبين العراق، فالنوايا قائمة والمشاعر مكبوتة، وكلما التأم جرح جد بالعدوان جرح، فمن العلامات الحدودية إلى أرصفة الميناء ومن المزارع إلى التعويضات، ومن الفصل السابع إلى المحاكم البريطانية ولن نزيد.
أما إيران الثورة فالقضية واضحة وشعار تصدير الثورة لا يستطيع أحد مخالفته، ربما تتغير أساليب التصدير ولكن تظل السلعة هي ذاتها.
ومضيق هرمز اللعبة المفضلة لدى القيادة الإيرانية، فكلما ضاقت عليهم سبل التعامل مع المجتمع الدولي هددوا بإغلاقه عقاباً لدول الخليج العربية.
وأعود بذاكرتي إلى ما يقرب من العقود الأربعة عندما تشرفت بحمل رسالة بلدي كأول سفير مقيم في أبوظبي عاصمة الاتحاد الوليد إذ ذاك، حيث دعيت إلى إلقاء محاضرة في الفجيرة عام 1974 في المنتدى الثقافي الذي يشرف عليه سمو الشيخ حمد بن محمد الشرقي ولي العهد في ذلك الحين، وأميرها المستنير حالياً وموضوعها “يمكن للفجيرة أن تكون من بين الأغنى في منظومة الاتحاد”، وتساءلت: لماذا لا يعد ميناء الفجيرة كي يستوعب قدرة كل الموانئ الخليجية، فإذا ما تحولت أنابيب تصدير النفط من شرق الجزيرة لتصب في خليج عمان عبر الفجيرة المطلة عليه متجاوزة مضيق هرمز، وكذلك باقي السلع المصدرة والواردة عندها نستطيع تلافي قضية التهديد في الملمات، فضلاً عن بقاء الخليج العربي أكثر نقاء، خاصة أن دول المنطقة تعتمد عليه في تصفية مياه الشرب والزراعة والخليج مصدرها الوحيد بعيداً عن الملوثات، ونحمد الله إذ إن هذا المشروع بدأ يأخذ طريقه باستحياء بدءاً بمحطة المياه وإنتاج الكهرباء لدول الخليج العربية.
تفاصيل الموضوع في كتاب الدبلوماسية الكويتية بين المهنة والمحنة، فهل بعد هذا يمكن أن نفكر في منظومة مشتركة أساسها هذه الخلافات، فضلاً عن جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، والإخوة في دولة الإمارات خير من يسرد تفاصيل تاريخ الاستيلاء عليها.
أما تسمية منظمة الدول المطلة على الخليج العربي، فلا يخفى على سمو الشيخ حمد الانتفاض الإيراني، وكأنه ملسوع من نحلة معربدة عندما يوصف الخليج بالعربي… وهي قضية- أي التسمية- شكلية حلها العالم المتحضر بسهولة، فالمانش يسميه الفرنسيون، بينما البريطانيون يطلقون عليه القنال الإنكليزي، وجزر فوكلاند عند البريطانيين والأرجنتين تسميها “مالفينس”، وبحيرة جنيف في الجزء الجنوبي و”لي مانس” في طرفها الشمالي الغربي، أي أن الأسماء تفرضها الشعوب واللغات، كلٌ حسب منطوقه، ولا أحد يعترض على الآخر طالما لا يدعي أحد أن التسمية تعني التبعية له، كما هو الحال مع إيران، ولن نسأل أهلنا في البحرين أو إخواننا في اليمن فـ”عند جهينة الخبر اليقين”.
إن دول مجلس التعاون معنية الآن بمشروعها الذي بدأت خطواته عام 1981 في العاصمة الاتحادية لدولة الإمارات العربية المتحدة (أبوظبي) وعبر مسيرته الثابتة تحققت الكثير من تطلعات مواطنيه، بحيث لا يمكن تصور الخليج العربي الآن دون مجلس التعاون… نعم يسير ببطء الواثق الذي قد لا يقنع حماس من يطالبون بالسرعة التي تسبق الزمن، ولكن من المؤكد أنها خطوات إلى الأمام، فالمزاج العام الذي يحكم مسيرة المجلس مسؤولين ومواطنين هو الحذر من التسرع غير المدروس… فالإنسان كما يقولون ابن بيئته، وبالتالي مسيرتنا هي خطوات خفاف الإبل وليست قفزات أطراف الكنغارو… وبالطبع إن الأمر ليس بسذاجة هذا المثل، ولكن مسايرة لواقع المنطقة، وحرصاً على كيان المجلس الذي يتفق قادته على أن القضايا والقرارات يتقبلها من هو مهيأ لقبولها دون إحراج لمن يحتاج إلى الوقت الأطول لتفهمها… ولكن المبادئ الأساسية والمتفق عليها ثابتة في النظام الأساسي الصادر من الدول الست في الخامس والعشرين من مايو 1981، وديباجته تؤكد الإيمان المشترك ووحدة الهدف التي تجمع شعوبها، كما تؤكد في فقرة تالية الجهود في مختلف المجالات الحيوية التي تهم شعوبها وصولاً إلى وحدتها. أما موضوع الخطوة الكبيرة نحو الوحدة أو الاتحاد فلم تهتز أو تغادر ضمائر وعقول أبناء المنطقة، بل يزداد توهجها كلما زادت المحن المحيطة بالمنطقة، والهيئة الاستشارية لقادة دول المجلس تناولت هذا الموضوع منذ عام 2011، ولي أن أسجل لصاحب السمو أميرنا الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح حفظه الله موقفا في هذا الموضوع حين طرحت على سموه في الحادي والعشرين من يونيو 2011 أهمية تناول موضوع الوحدة أو الاتحاد عبر منظور النظام الأساسي لدول مجلس التعاون، ولم يتردد رعاه الله بالتوجيه في تقديم الموضوع عاجلاً إلى الهيئة الاستشارية ليصار عبر القنوات الإجرائية بدءاً بدعم سموه لهذا المشروع إلى المجلس الأعلى للقادة، حيث أقر وأعيد إلى الهيئة لبحث تفاصيله، وكنت قد تقدمت بمذكرتي بشأنه إلى الهيئة الاستشارية في الثالث عشر من يوليو 2011 ودعمها الأستاذ عبدالله بشارة الذي ينبض قلمه كقلبه بقضايا دول المجلس في الأول من أغسطس 2011 ثم مذكرة الدكتورة الفاضلة لولوة المسند عضو الهيئة الاستشارية عن دولة قطر الشقيقة بمذكرة رصينة عن الوحدة والاتحاد دعماً لهذا الاتجاه. وتفاعل الأمر بالمناقشات حيث سيتواصل البحث في الاجتماع المقرر عقده في الأسبوع الأول من مارس القادم في مملكة البحرين الشقيقة. وقمة هذا التوجه الوحدوي تمثلت بدعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في القمة الثانية والثلاثين للقادة بالرياض بتاريخ 20 ديسمبر 2011 حين أعلنها بأمانة وصدق من يحمل هموم أمته بالقول “لقد علمنا التاريخ وعلمتنا التجارب ألا نقف عند واقعنا ونقول اكتفينا، فمن يفعل ذلك فسيجد نفسه في آخر القافلة يواجه الضياع ومذلة الضعف، وهذا أمر لا نقبله جميعا لأوطاننا وأهلنا واستقرارنا وأمننا، لذلك أطلب منكم أن نتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد في كيان واحد يحقق الخير ويدفع الشر إن شاء الله”، وهذا الكلم الحق أعطى النظام الأساسي لمجلس التعاون الانطلاقة الجديدة نحو المستقبل.
إذاً هذا المشروع الوحدوي تحت أي مسمى أو شكل هو ما يجب أن يطغى على كل ما عداه من مشاريع منظمات مستجدة على المنطقة المتخمة أصلا بالأشكال العديدة لمثل هذه التجمعات، فطريق الوحدة الخليجية تستجيب لا شك لتطلعات الأجيال، وتوفر الأمن الحقيقي لدول المنطقة، وتحصن وجودها ضد المغامرات التي يتقن اللعب فيها الوسط المحيط بنا الذي يعاني عدم الاستقرار.
إذ لا مستقبل للدول الصغيرة التي تعيش عالة على حماية الأكبر منها، ومن المؤكد أن دول الخليج العربي الست بالمساحات الشاسعة خاصة في المملكة العربية السعودية وفي سلطنة عمان وباقي دول المجلس وبمجموع السكان فيها تخلق كياناً يتوازى في قيمته المادية والمعنوية مع محيطه الجغرافي الأكبر، والمنطق يقودنا إلى أن مثل هذا البناء الذي تستمرّ الجهود البحثية والفكرية في إعداده يتطلب تفرغ شعوب المنطقة ودولها لاستيعابه، كلٌ وفق مسؤولياته، وبالتالي فالأولى أن تتجه أولوياتنا إلى معالجة ما هو مطروح حالياً بدلاً من الانشغال جانبياً في أية مشاريع أخرى نقدر حق طرحها، وسلامة نوايا من وراءها.
ولم نكن في أي وقت من الأوقات أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة أو الاتحاد كما هي المرحلة الراهنة التي يتم فيها تداول مجلس التعاون قادة ومختصين لهذا الموضوع، وهو ما أفترضه متقدماً على ما عداه من قضايا ومقترحات لمواجهة المستقبل الذي لا مكان فيه للصغار، فإذا ما كبرنا بوحدتنا فعندها سنكون أقدر على التعامل النسبي بثقة وحرية مع كبار المنطقة مثل إيران والعراق، وهما المعنيان الآخران في مقترح منظمة الدول المطلة على الخليج العربي، وبغير التكتل الوحدوي سنكون ضحايا المطرقة والسندان ضمن أية تركيبة أو مشروع… والله المستعان.

* عضو الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.