تعودنا كأمم ومجتمعات شرقية تكريم متميزينا بعد رحيلهم، وهو أمر محزن أحيانا، لأننا نحتاج في لحظات معينة أن نُشعر أولئك الذين قدموا لنا الكثير بشيء من الامتنان والتقدير، وإن كان لا يتساوى بالضرورة مع مقدار عطائهم وتضحياتهم، ولكل هذا.. أكتب هذا المقال!
الكثيرون يتساءلون عن واقع الطب النفسي كمهنة في الكويت بشكل عام وفي مستشفى الطب النفسي/مركز الكويت للصحة النفسية بشكل خاص، وكان المركز وما زال محل اهتمام اعلامي منذ ما يقارب العام، وذلك لطبيعة الأمور التي يتعامل معها، ومنها قضايا تمس الرأي العام، كما شهد المركز عدة حوادث اعتداء متكررة في العام الماضي طال بعض العاملين فيه، وخصوصا مديره، د. عبدالله الحمادي!
وعن هذا الأخير نتحدث اليوم، ومن زاوية الاعتداءات عليه ننطلق، مع التأكيد على أن الاشادة به لا يجب ربطها أبدا بالانتقاص من غيره ممن تبوأ منصب الإدارة في هذا المركز الحيوي والمهم.
تحمل د. الحمادي مسؤولية إدارة المركز في فترة عصيبة وظروف حالكة، ارتبطت بوجود احباطات كثيرة في نفوس العاملين في المركز متعلقة بتحفظات إدارية وفنية ومعوقات بيروقراطية مملة، ناهيك عن غياب المشروع الحقيقي لقيادة هذا التخصص وانتزاع دور حقيقي له في سلم أولويات وزارة الصحة، وهو المجال الذي عانى الإهمال لعقود طويلة ولأسباب متعددة ليس هذا المجال لتناولها.
وجد الدكتور الحمادي الكثير من المشاكل المتعلقة بنظرة الكثير من المراجعين للمركز والتي تسهم بشكل كبير في خلق واستمرار النظرة السلبية في المجتمع للمركز المذكور، وهو ثقافة الـ«دكان»، والتي تتلخص في التعامل مع المركز كمحطة توقف لأخذ الدواء بشكل غير علمي أو ممنهج ومن دون أي التزام بالمعايير العلمية لصرف الأدوية النفسية، بل ومن دون التزام بالمراجعات الضرورية لمتابعة تأثير الأدوية، مما أنتج عددا رهيبا من الوصفات الطبية التي أقل ما يقال في حقها انها «وصفات تحت الطلب»، تجتمع بها الأدوية المتعارضة، ناهيك عن وصفات المؤثرات العقلية ومآسيها وكيف كانت تصرف بشكل غير منضبط وبمعدلات وتشكيلات غير مفهومة، ومن جهة أخرى، كانت طريقة عمل اللجان الطبية وعدم وجود معايير واضحة للتوصيات الطبية، سببا آخر لتشكيل وجهة نظر سلبية عن المركز والعاملين فيه.
كل هذا وغيره الكثير، كانت للدكتور الحمادي وزملائه وقفة جادة تجاهه، فقام بالمساهمة في اصدار العديد من التوجيهات الداعمة لتطبيق المعايير العلمية على الممارسات المهنية الاكلينيكية، وعملية صرف الدواء وضبطها، كما قام وزملاؤه بمراجعة اجراءات اللجان وتوصياتها، مما نتج عنه خلق احتكاكات متكررة مع بعض المراجعين المعتادين على أن تكون الأمور «سهالات»، والسهالات هنا لا تعني تخفيف العبء على المواطن، بل الغاء جميع الاعتبارات الطبية والأكاديمية في التعامل معه، وإعطائه ما يريد، فقط لأنه يطلب ذلك، أو يهدد بالاعتداء حال رفض تلبية طلباته!
لم تكن إدارة المستشفى هي الشيء الوحيد الذي قدمه د. الحمادي للكويت، فقد قام مع الراحل د. جعفر بهبهاني بإدارة مركز الرقعي النفسي لعلاج مرضى رهاب ما بعد الصدمة وأسرى الغزو، وقاموا بعمل العديد من الدراسات والأبحاث والتوصيات التي لم تر النور للأسف، كعادة الكثير من الأفكار الجميلة في بلادي.
أقول هذه الشهادة في حق هذا الرجل، وهو لم يطلبها مني، ولا يعلم أساسا بكتابتي هذا المقال حتى موعد نشره، لكنها رسالة وفاء وعرفان وشكر في حقه إثر طلبه من الوزارة اعفاءه من منصبه لاعتبارات خاصة، أحدها، وليسمح لي بومحمد، مرض أحد أقاربه من الدرجة الأولى بالسرطان، فقد كان بومحمد مقيما بين مستشفانا ومركز حسين مكي الجمعة للسرطان منذ السادسة صباحا حتى التاسعة مساء طوال الشهرين الماضيين، وما زال..
أمثال هذا الرجل.. يزرعون الأمل في نفوسنا.. ويشعروننا أن الدنيا.. ما زال فيها خير!
* بعد كتابة هذه السطور وأخذ طريقها نحو الطباعة بقليل، جاءنا وفاة والدة د. الحمادي بعد معاناة مع مرض السرطان… انا لله وانا اليه راجعون.
Twitter: @alkhadhari
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق