جاسم بودي: عتاب الغالبية


يصلنا من فترة إلى أخرى، مباشرة ومداورة، عتاب من بعض أصدقائنا وإخوتنا في الغالبية النيابية ومن الشخصيات السياسية والإعلامية الدائرة في الفلك نفسه، مفاده أن «الراي» تعطي للأقلية النيابية مساحات لا تستحقها، وتسلط الضوء على مواقفها بما فيها تلك التي تشذ فيها اللغة عن المعايير المتعارف عليها.
نتلقى العتاب بالابتسامة نفسها التي كنا نتلقى فيها من الغالبية السابقة ما هو أكثر حتى من العتاب، ومع ذلك نستمر في فتح قنوات الحوار لا على قاعدة الدفاع عن موقف بل على قاعدة «صديقك من صدقك».
عندما كانت الغالبية الحالية أقلية في السنوات السابقة، كنا ربما الوحيدين (في فترات ما) الذين فتحوا لها الصدور والقلوب قبل الصفحات. حوربنا في كل شيء واتهمنا بأننا نسعى إلى تقويض الامن والاستقرار وبأننا نحول «الظواهر الصوتية» إلى «ثوابت سياسية» وغير مقدرين لمسؤولية الحريات الإعلامية الممنوحة لنا. قيل لنا في السر والعلن إن ما تعتقدونه رسالة إعلامية وانحيازا للحريات هو تأسيس لفوضى مقبلة، وان الشخصيات التي تبرزونها بعضها يتخفى خلف شعارات معينة وسيغيرها عندما يصل إلى مبتغاه، وبعضها الآخر سيجرفه التيار القبلي أو الطائفي وسيكون إبرازكم له مقدمة لسيادة التطرف في الفكر والممارسة.
وكان ذلك كله يزيدنا إصراراً على متابعة خطنا لأننا نؤمن ايماناً كاملاً بأن مفردات الحصار والعزل والإلغاء والإقصاء والتصنيف والتخوين والاتهام لا مكان لها في الكويت، فهذه المفردات شكلت مقدمات الحروب الأهلية في بعض الدول كما كانت أساس التحرك الشبابي في الربيع العربي. الكويت محكومة بمفردة واحدة هي «التوافق» رغم كل مظاهر التصادم المعلنة والمخفية. يستطيعون شتم بعضهم وضرب بعضهم. يستطيعون ممارسة المزيد من التعبئة السوداء ضد إخوتهم وأبنائهم في الوطن الواحد. يستطيعون خلق مناخات عنف وتطرف… لكن ذلك كله لن يوصل الكويت إلا إلى الخراب، أما التوافق البناء الإيجابي الفاعل فهو الذي يحرك القطار الى المستقبل.
عودوا إلى السنوات السابقة التي كانت فيها الغالبية متسيدة. كم خبر أفردنا لرموزها في مقابل أخبار من كانوا يصنفون أقلية؟ بعض من في الغالبية السابقة ذكرنا منذ فترة بأنه نسي انه نائب لغياب اي نوع من أنواع التسليط الاعلامي عليه وذكرناه بدورنا بأن الصحف تريد موقفا لا تصفيقا. بعض الأثمان التي دفعناها نتيجة الالتزام بالرسالة الاعلامية معروف وبعضها الآخر لا تعرفه سوى أقلية في الغالبية الحالية، ومع ذلك كنا مصرين على متابعة نهجنا مهما كلف الامر بل واجهنا كل اتهام او محاولة تضييق علينا بالذهاب بعيدا في تخصيص الافتتاحيات للكتابة الايجابية الشخصية عن أكثر رموز الأقلية السابقة كرها من قبل الحكومات المتعاقبة.
ثم يرفق العتاب الراهن بعتاب آخر: لماذا تسلطون الضوء على المواقف المتناقضة وازدواجية المعايير لدى بعض أهل الغالبية؟ بمعنى آخر، المطلوب أن تكون مانشيتات الصحيفة كلها في السابق مكرسة لعبارات معينة صارت فعلا شعارات شعبية من نوع «لا لسرية الاستجوابات» و«لا لتحويلها الى الدستورية والتشريعية» وان يتغير المانشيت مع تغير الأقلية والغالبية إلى «قد تجوز السرية عند الضرورة» و«قد يجوز التحويل»… والامر نفسه ينطبق على تعديلات الدستور وعلى الاجتماعات النيابية خارج المجلس النيابي. بصراحة هو عتاب لأهل العتاب وليس لأهل الصحافة، وهو عتاب للغالبية التي عليها ان تدرك ان الكويتيين اليوم ليسوا «فداوية فزعات» على الخير والشر بل في يد كل واحد منهم جهاز صغير يوثق بالكلمة والتاريخ والصورة الموقف… والموقف المتغير.
بدل العتاب كنا نتوقع من الغالبية ان تشجعنا هي على تكريس قيم الاعتراف بالآخر وافساح الطريق له للتعبير عن نفسه. نعرف ان من عانى من التعسف ومحاولات الإلغاء والإقصاء لا يمكنه أن يفرض الأمر نفسه على الآخرين اللهم الا اذا كان هؤلاء مؤمنين بالإلغاء والإقصاء وهو ما ننزه رموز الغالبية عنه، ويعرف الجميع ان الحراك السياسي، خصوصا المتعلق بالاستجوابات وما خلف الاستجوابات، يفرض نفسه على وسائل الإعلام كائنا من كان المستجوب والمستجوب، وان النقد المباح لمواقف الآخرين لا بد أن يجد طريقه الى النشر لانه يكشف بعض العيوب في الحد الاعلى ويكشف نيات مطلقيه في الحد الادنى.
عتاب المحب نتقبله كما كنا دائما نفعل، بصدر رحب وقلب مفتوح، لكننا نرفق التقبل هذه المرة بنصيحة، وهي ان الحراك السياسي الكويتي فاعل ومتفاعل، والدنيا دوارة وغالبية اليوم قد تصبح أقلية غدا، والأفضل للغالبية الحالية وللكويت، ان يعمل المجلس على تشريع قيم تصون الديموقراطية والحريات، وعلى سن قوانين تمنع اي احد، وخصوصا السلطة التنفيذية، من الانتقاص من المكتسبات الدستورية او الاتجاه الى اي نوع من انواع الهيمنة والديكتاتورية.
العتاب غسيل القلوب، ورموز الغالبية يعرفون مكانتهم وكم نحن قريبون منهم، ويعرفون رأينا ببعض رموز الأقلية وكم نحن بعيدون عنهم، لكننا لا يمكن ان نتنكر لنهجنا ولمبادئنا ولم نكن لنفعل ذلك في السنوات السابقة رغم كل الضغوط.
العتاب غسيل القلوب، أما اذا كان بعض الصعاليك والسفهاء ممن نقلوا البندقية المؤجرة من كتف الى اخرى يريدون غسل العقول وتلويث العلاقات، فهؤلاء مساحيقهم فقاعات هواء تملأ الفضاء بالحجم لكنها خفيفة الوزن… تزول بسرعة مخلفة بقعا قذرة.

جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

 

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.