أعان الله أعضاء المحكمة الدستورية على ما هم بصدده! فالقضاء الكويتي ليس بمعزل عن الأوضاع السياسية غير المستقرة منذ سنوات.
وتعد السلطة القضائية، شاءت أم أبت، طرفا يؤثر ويتأثر بمصير الساحة السياسية، ولو كان ذلك بالزج بها زجا من قبل الأطراف الفاعلة، وأولهم السلطة التنفيذية، وشاهد ما نقول تصدي المحكمة الدستورية للطعون الانتخابية لمجلس الأمة فبراير 2012، الذي أبطل بعد ذلك قضائيا، وتصدي المحكمة الدستورية لبحث طلب الحكومة بشأن دستورية قانون الدوائر 5/4 الذي تجاهلت الحكومة حكم المحكمة ولم تأخذ به، وحاليا تناول المحكمة، وفي أقل من سنة، للطعون الانتخابية المتعلقة بانتخابات 1/12، وبالأخص دستورية مرسوم الصوت الواحد.
إن الكرام من أعضاء المحكمة الدستورية مدركون أيما إدراك أن أحكامهم وقراراتهم تتجاوز بكثير أبعادها الدستورية والقانونية إلى أبعاد سياسية واجتماعية أثرت وتؤثر في كيان الدولة واستقرارها، وما شهدته الساحة السياسية خلال الأشهر الماضية من نزاعات وخلافات خطيرة خير دليل على النتائج السياسية المترتبة على أحكام المحكمة الدستورية، لذلك أنا على يقين واعتقاد جازم بأن المحكمة الدستورية ليست فقط محكمة قانون بحسب، وإنما هي محكمة سياسية بدرجة متساوية، أكد صحة هذا المبدأ ما ورد في حيثيات تفسير المادة 173 من الدستور، التي دعت إلى تشكيل قضائي سياسي للمحكمة، إضافة إلى ما استقرت عليه التطبيقات القضائية العالمية في هذا الشأن.
مسؤوليتنا تجاه الدولة والشعب والدستور تحتم علينا أن نتوجه لأعضاء المحكمة الدستورية بإثارة عدد من الأبعاد المهمة أثناء تصديهم لطعون الصوت الواحد، نعتقد بأنها أبعاد لها وقعها الدستوري والقانوني والسياسي الذي من شأنه أن يحقق ما نادى به وتطلبه الدستور، وأول هذه الأبعاد تجاوز السلطة التنفيذية للدستور، عند انفرادها بتغيير النظام الانتخابي، وفقا للمادة 71، بحجة الضرورة، على نحو يجعل السلطة التنفيذية اليد العليا والطولى في تشكيل مجلس الأمة، من دون مشاركة الشعب في تحديد آلية الاختيار، ويعني ذلك بالضرورة أن الحكومة تشكل مجلس الأمة وليس إرادة مجلس الأمة المكون من طرفي المعادلة، ويعني ذلك أن الإخلال بيّن بالمعادلة الدستورية في الحقوق والواجبات.
وثاني تلك الأبعاد، فإن انفراد السلطة بتحديد آلية الانتخاب يعد بمنزلة هدم لأركان المادة 71 من الدستور، حيث إن ذلك يعني قيام برلمان مصمم وفقا لأهواء الحكومة، وبالتالي لن يستطيع هذا المجلس ممارسة الرقابة الحقيقية على مدى توافر الضرورة من عدمها عند عرض تلك المراسيم، باعتبار أن حق الرقابة على مراسيم الضرورة مقابل لحق السلطة في إصدار المراسيم، وهذا يعني تدخل الحكومة السافر في تحديد الرقابة واستباق، بهدف توجيه الرقابة البرلمانية، بما يحقق أغراضها، ومن دون إرادة منفصلة، وذلك هو إخلال جسيم بالعديد من النصوص الدستورية المتعلقة بتوازن أدوار السلطتين، وعدم تجاوز سلطة على حقوق وامتيازات سلطة أخرى، فضلا عن إغفال وتجاوز للحقوق التي أعطاها الدستور لممثلي الأمة في الرقابة على أعمال وتصرفات السلطة التنفيذية.
وثالث هذه الأبعاد أنه بالافتراض الجدلي أن المحكمة الدستورية أقرت حق السلطة التنفيذية بصلاحية تغيير النظام الانتخابي منفردة، تحت مظلة مراسيم الضرورة، فإن ذلك يعني إعطاء السلطة التنفيذية «شيكا مفتوحا» بأحقيتها بتغيير النظام الانتخابي منفردة متى شاءت، ووفقا لأهوائها وأمزجتها، ويعد ذلك بلا شك تنقيحا للدستور، وانقلابا حقيقيا عليه.
ورابع هذه الأبعاد، أن قيام الحكومة بمهام التشريع لقانون الانتخابات، الذي يعد من صميم أعمال السلطة التشريعية، وجاء ذكره في باب السلطة التشريعية، ما يعد تجاوزا دستوريا على رؤية مؤسسي وواضعي دستور 1962، الذين جنحوا إلى أن قانون الانتخابات يعد بقانون من قبل السلطة التشريعية.
ومن جانب آخر، فقد يثير البعض فكرة أن المحكمة الدستورية هي محكمة رقابة على المشروعية الدستورية، وليست محكمة مدى ملاءمة التشريع أو توافر حالة الضرورة من عدمها، وهي فكرة ومبدأ له من يؤيده قانونيا، لكن هذا المبدأ في حال عدم إيقاف السلطة التنفيذية بتغيير نظام الانتخابات يعني إطلاق يد الحكومة تعبث متى شاءت بمصالح الأمة. وألفت انتباه الكرام من أعضاء المحكمة إلى أن إصدار مرسوم الصوت الواحد وتبعاته تجاوز حالة الملاءمة إلى حالة صارخة، لعدم المشروعية الدستورية. إن أنظار الشعب الكويتي، وإخراج الكويت من حالة التشرذم والفوضى السياسية يعد مسؤولية كبرى تقع على عاتق أعضاء المحكمة الدستورية، ويتطلب وفقا لهذه المسؤولية أن تتصدى المحكمة، وبشكل مباشر وحاسم وتاريخي، لمدى أحقية السلطة التنفيذية بإصدار مرسوم الضرورة الخاص بالصوت الواحد، في إطار المشروعية الدستورية، ومدى توافر الملاءمة، كما ينتظر من المحكمة أن تتبنى أو ترد بإسهاب على الدفوع العديدة التي تقدم بها الطاعنون على أساس عدم دستورية مرسوم الصوت الواحد من دون إغفال أو تجاهل أو قفز على هذه الدفوع إلى دفوع أخرى تعد أقل أهمية أو بعيدة عن أساس المأزق الذي تعانيه الدولة والشعب.
إن الحكم المنتظر يعد منعطفا تاريخيا في الحياة الدستورية والسياسية، لذلك يعد مسؤولية عظمى على من يتناوله ويتصدى له ويصدر أحكاما بشأنه.
أعان الله أعضاء المحكمة الدستورية على المسؤولية..
قال تعالى: «إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا».
المصدر جريدة الكويتية
قم بكتابة اول تعليق