كان فخر الكويت – حين وطئت قدماي تربتها للوهلة الأولى – مدرسة الكويت الثانوية، وكانت قد بُنِيَتْ فيما هو اليوم «جامعة الكويت»، كان ذلك في أواخر عام 1959. وعلى تواضعها، كانت المدرسة الثانوية حقا مفخرة للكويت، وكثيرا ما صحبتُ أعلام زائرينا، كأمثال مدير البنك الدولي الراحل يوجين بلاك والممول الغني عن التعريف ديفيد روكفلر، الى موقع المدرسة ليشهدوا جهود البلد في مراحلها الأولى لبناء نهضته الحضارية. في هذه المرحلة كان التعليم العالي مقتصرا على إرسال الطلاب الى الجامعات الخارجية، أكثرهم الى مصر، وأعداد ضئيلة الى الجامعة الأميركية في بيروت والقاهرة، والجامعات العراقية، وأقل منهم الى الجامعات البريطانية.
وقد بدأت فوضى التعليم العالي منذ هذه المرحلة، فلم يكن انتقاء الطلاب لتدريبهم مخططا لمواجهة حاجات البلد، ومتطلبات قطاعاته المختلفة، ولم تكن هناك رقابة منظمة لمتابعة انجاز الموفدين، ولا تدقيق لمدى انجازاتهم، او تخلفهم، أو محاسبتهم، فمجرد التخرج كان يعتبر معجزة، ودليلا قاطعا على عبقرية الخريج، وتعاظمت الحاجة بعد الاستقلال، وبدأ انشاء مؤسسات الدولة، فكان استخدام الخريجين يتم بشروطهم هم، واذكر ان الصديق الكريم الاستاذ عبد اللطيف الحمد (وكان لا يزال طالبا في جامعة هارفارد الأميركية)، رفض اقتراحي بنقله من وزارة الخارجية الى صندوق الكويت للتنمية الاقتصادية ما لم أحصل له على ترفيع الى درجة أقدم في سلم الخدمة المدنية.. الخ. وهذا ما تم، وكذلك بدأ تقدمه اللامع، وبرزت مواهبه، ولكن كثيرين غيره لم يملكوا الكفاءات المطلوبة للمناصب التي اختيروا لها، فبدأ تعثر مؤسسات الدولة، وتراجعها منذ بدء نهضتها!
إنشاء جامعة وطنية
وفي الفترة هذه بدأ النقاش حول ضرورة إقامة جامعة وطنية لمواجهة حاجات البلد القيادية في مختلف القطاعات، واتفق أن يظهر على الأفق في الكويت شخصان لعب كل منهما دوره في خلق مؤسسات الدولة الفتية، كان أولهما الصديق الراحل الأستاذ عبد العزيز حسين، طاب ثراه، وكان كاتب هذه السطور الثاني. وكنا – نحن الاثنين – ابني بيئتنا. كان أبو هاني، تغمده الله تعالى برحمته، معجبا بمصر الشقيقة وحضارتها وتقدمها، مؤمنا بزعامتها، وكان حماسه لإقامة جامعة كويتية يعكس هذه المشاعر كافة، وكانت غاية أمانيه تتركز في انشاء جامعة على غرار ما وجد في مصر الشقيقة. وأنا لا أدري عن ثقافة أبي هاني شيئا، ولكن حبه العظيم لمصر وما فيها يدعوني الى الاعتقاد بأنه أتم تعليمه (أو بعض تعليمه) فيها، وأنه، نتيجة لهذا الاعجاب وهذه الصلة، اتخذ نظامها الجامعي نموذجا لما يريد انشاءه في الكويت.
أما خلفيتي فهي اني قد تخرجت في جامعتين عربيتين: بغداد والقاهرة، وعلى الرغم من تخرجي بتفوق، وحصولي على جوائز في مراحل دراساتي المختلفة، قوبلت، عندما ذهبت الى بريطانيا لمتابعة دراساتي العليا، باستخفاف واستهزاء لم أعرف سببهما إلا حين بدأت دراستي في اكسفورد، ثم توليت التعليم فيها، وفي جامعة «برنستون» في الولايات المتحدة. وقد دعتني هذه الخلفية الى التشكك في تأسيس جامعة في الكويت في تلك الفترة المبكرة من تأريخ البلد.
وليعرف اخواني في الكويت السبب الذي من أجله عارضت انشاء جامعة فيها يومئذ، وليروا الفرق بين نظم التعليم في بلادنا وفي الغرب، أسوق القصة التالية: تبرعتُ ذات يوم بإلقاء محاضرة في دار الاثار الإسلامية عن تاريخ المغول في الهند، وليتني لم أفعل! إذ كنت أعول على ما قد أجد في مكتبة جامعة الكويت من مصادر للبحث الذي تبرعت بالمحاضرة فيه، فهل يعلم معالي وزير التعليم العالي عدد الكتب التي كانت تضمها مكتبة الجامعة التي أنشأتها السياسة، عن البحث الذي كنت أتابعه؟ ثلاثة مصادر بالانكليزية وستة أو سبعة لا تستحق النظر فيها بلغة الضاد! وهل يعرف معاليه أن في «اكسفورد» بناية ضخمة بكاملها مفردة، جُمِّعَ فيها كل ما كتب عن الهند، دع عنك ما تضمه مكتبات كليات الجامعة الخمس والاربعين، فضلا عن مكتبة المتحف البريطاني الفريدة التي لا تثمن!
إن الجامعات العربية من غير استثناء، لَسبب محوري، من أسباب تخلف العرب، ولقد آن الأوان للأمة أن تعرف أسباب تخلفها وجهلها: فقد ضقت ذرعا بالثناء المكذوب، الذي نُسْمِعُه حكامَنا عما يدور في المجتمع العربي من حماقات لا يصلهم عنها الا ما يستطيبون. لقد عارضت اقامة جامعة في الكويت، كما كنت فعلت ذلك في بغداد قبل أكثر من سبعين عاما، ولا حاجة بي اليوم لتبرير موقفي، ولو شئت الكشف عما أعرف، لانفضح كثير مما هو مستور، واذا شك الناس في سلامة عقلي، ولا أنازعهم في ذلك، فليرجعوا لما نشرته الزميلة «الكويتية» على صفحتها الأولى في عددها الصادر يوم الخميس، الموافق للرابع عشر من الشهر الجاري: عن تعذر تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية التي دفعت عليها الحكومة الملايين، لما أنتجته الجامعة الكويتية من جيوش من الخريجين، انحصر اسهامهم في بناء الاقتصاد الكويتي في تضخيم «البطالة المقنعة» في البلاد، وايصالها الى «حد كارثي»! ولا يسع المراقب الا أن يأسو للكويت، وللجيل الخاسر من الشباب الذين ضحى بهم جهل المخلصين!
أربعة أخطاء كبرى
ارتكبت الكويت أربعة أخطاء كبرى، وقعت فيها أخواتها الدول العربية قاطبة: بدأ العرب ببناء جامعاتهم من مرحلة «الصفر»، فأقاموا الجامعات من غير إعداد القاعدة التعليمية، فقام البناء الجامعي على أساس من الرمل، إذ استمدت الجامعات طلبتها من طلبة غير مؤهلين للتعليم العالي، وكان عليها أن تدرّب -خير تدريب- معلمي المدارس الابتدائية ورياض الأطفال ومعلماتها أولا وقبل كل شيء، لكي تؤهل الطلاب والطالبات للتعليم العالي، وقد أدى إخفاقها هذا الى أن تكون الجامعة مدرسة ثانوية، حين كان يأمل البلد أن تنتج الجامعة شبيبة تتولى القيادة، وتضطلع بمسؤوليات المجتمع الذي أوكل إليها قيادته.
وارتكبت الكويت الخطأ الثاني، حين تركت الانخراط في الكليات، واختيار الاختصاص اعتباطا، غير آخذة بنظر الاعتبار حاجات القطاعات المختلفة في الاقتصاد الوطني، وإذا كانت هذه المطاطية مقبولة عمليا في بلد واسع كالولايات المتحدة، فهي خطأ جسيم كان على مؤسسي الجامعة الكويتية تجنبه في المراحل التأسيسية على الأقل.
وارتكبت الكويت كبرى غلطاتها في سياستها التربوية العليا، حين أهملت جعل اللغات الأجنبية إجبارية، فأقفلت بذلك على الطالب والطالبة الكويتيين الانتفاع بما تراكم في الغرب من الثروات العقلية، في عصر أصبح العلم فيه بمنزلة الهواء للحياة.
أما أفحش الأخطاء التي ارتكبت في السياسة التعليمية، فهو الإهمال «التام»، الذي خص السياسيون به التعليم المهني والتكنولوجي، اهمالا عزل المجتمع الكويتي عن قافلة الحضارة، فجعلها تعيش حضاريا في العصر الحجري، وعهدت للاضطلاع بهذا القطاع المهني والتكنولوجي الى طبقة من العبيد المستوردين من الهند والفلبين وباكستان ومصر، يقودهم أسياد جهلة تولوا القيادة بحكم ولادتهم فحسب! وهذه أنكى النكبات، حيث جعلت الجنسية وحدها معيارا للكفاءة!
وثمة أخطاء أخرى ارتكبت في سياسة التعليم العالي، لو أفصحت عنها لتبرّأ مني الكثيرون. فما الحلول إذاً؟
إذا حسب احد أن الحلول كقطع الغيار تشترى من ساحر أو عطار، فتلك خرافة حمقاء، فالحلول الحقيقية، طويلة المدى، مريرة، مؤلمة، غالية يتطلب الأخذ بها صبرا جميلا طويلا، وآلاما موجعة ستضطر الأجيال القادمة الى مواجهتها، حين يكون تحول كاتب هذه السطور الى تراب، وعصفت بأسواق البترول أهوال لا يريد هذا الجيل الجاهل أخذ الحيطة لها. ولقد أسمعت لو ناديت حيا، ولكن..!
عودة أخيرة إلى إيران
يخيل إلي أن قرّائي الأفاضل قد عيل صبرهم بما كتبت – وما زلت أكتب – عن إيران، أما هيئة تحرير القبس الحرة، المتسامحة، التي ما فتئت تأذن لي بالكتابة عن كل ما يدور في خلدي، فلغز أعجزني حله: أتراها ترمي الى أن تتخذ ما تنشر لي برهانا قاطعا على حرية الرأي في الكويت، أم هي تغريني بالتمادي لأنتهي ضيفا على الدولة للحد مما يشطح به قلمي؟!
إلا أني أقطع على نفسي هنا ألا أعود إلى الحديث عن إيران بعد اليوم.
أروي هنا قصة شهدت أحداثها، وكنت البطل، والأول من مشتركَيْن اثنين في إخراجها، وأقصها اليوم مثالا على ما كنت ذكرت مما يكنه العربي من تحامله على ايران، ولا شك عندي في أن الشعور متبادل بيننا وبين جارتنا، وأن الإيرانيين يكنّون لنا من الاحتقار والاستهزاء بنا ما نكن لهم، فالحماقة والجهل ليسا وقفا علينا! وإلى القراء الكرام أنباء ما تم:
كنت تخرجت في كلية الحقوق في بغداد عام 1943، فمارست القانون سنتين، شهدت فيهما من إسفاف المستوى القانوني، والامتهان للعدل، ما هالني، ودعاني الى الاشمئزاز من ممارسة القانون الى الأبد، فقررت أن اختيار المحاماة مهنة لي كان ورطة فريدة عليّ، تداركتها قبل مضي سنواتي، ولما كان المجلس الثقافي البريطاني منحني بعثة للدراسة في بريطانيا قبل ذلك، عدت أطالبهم بتنفيذ وعدهم، فقيل لي إنه على بقاء الوعد قائما، فهو مشروط بانتهاء الحرب، فلجأت الى جامعة هارفرد الأميركية، فلم أتلق ردّا منها، فقررت الذهاب الى مصر والانتساب الى قسم الدراسات العليا -فرع الاقتصاد- فأكملت في جامعة القاهرة متطلبات «دبلوم الدراسات المالية والاقتصادية العليا»، وكنت أول المتخرجين، وكانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها، وتبسمت لي الأقدار، فوصلتني في أسبوع واحد دعوة من بريطانيا لزيارتها والتسجيل في إحدى جامعاتها، وقبول من «هارفرد» أيضا، ونظرا إلى فقري اخترت العرض البريطاني، وبعد مغامرات أرجو وصفها في مناسبة أخرى، وجدتني أخيرا في لندن. هناك فهمت أن قبولي في الجامعة التي قُبِلْتُ فيها انطوى على خطأ استوجب إعادة النظر في قبولي، وأن عليّ الانتظار لبضعة أسابيع لحل المشكلة، وعلى ذلك اقترح الرجل الموكل بالأمر سفري الى اسكتلندا والانضمام الى فئة من الطلاب الجدد سبقوني اليها، وكان ذلك للاستجمام والتعرف على معالم ذلك الجزء من بريطانيا أيضا. وأوصاني «مرشدي» بمقابلة المسؤولة عن شؤون الجماعة التي سأنضم اليها، فقد كلمها عني وهي تتوقعني وستُعنى بأموري.. إلخ. وقد اتبعت تعليماته، فوصلت أخيرا الى قرية جبلية رائعة في أعماق الشمال الاسكتلندي الخلاب، واتضح أن الجماعة التي انضممت إليها قد اختارت حصنا حربيا من حصون القرون الوسطى لسكنها ليلا، والتجوال نهارا للتعرف على معالم جمال المنطقة وما ضمته من مواقع تأريخية.
قيم موروثة
كانت السيدة المسؤولة عن الجماعة تتوقعني، فسألتني عن كيفية لفظ اسمي فعرّفتها، كما طلبت معرفة اسم وطني فقلت لها إني من مدينة بغداد في العراق، وكانت هي معمَّرة قدّرْتُ عمرها بما ينوف على ستين عاما، فهي في سن جدتي، ولم تكن مس فيونا (وكان هذا اسمها) وقعت عيناها الذابلتان على مخلوق من العراق، وإن كانت سمعت ببلد اسمه «بين الرافدين» ورد ذكره في العهد القديم (التوراة)، فقادتني الى حيث اجتمع زملائي الطلاب الآخرون لتعرّفهم بي وتقدمني اليهم. قالت مس فيونا ما معناه بصوتها المرتجف: «أولادي! جئت أقدم لكم عضوا جديدا انضم الى جماعتنا: المستر شهاب من ايران»، وما كادت مس فيونا تنهي جملتها، حتى قفزت من مقعدي صارخا: «معذرة، مس فيونا، أنا لست ايرانيا، وأنت تهينينني بنسبتي الى ايران. أنا من العراق!»، ففوجئت المسكينة بما لم تتوقع، وردت معتذرة، قالت، بابتسامة واسعة: ايران! العراق، هما متشابهان، ولا فرق بينهما على أي حال! فقلت لها: «مس فيونا! كفاني اهانة من فضلك! أنا لست ايرانيا! أنا من العراق.. أكرر كفاني اهانة.. انا لست ايرانيا.. أنا من العراق! هل تفهمين؟!»، فتراجعت المسكينة، واعتذرت اعتذارا رقيقا مستفيضا. وبعد أسبوع من الحادث جئت اودّعها حين آن موعد عودتي الى لندن، فقالت مس فيونا: يا مستر شهاب قد أكون أخطأت في نسبتك الى ايران.. ولكني لا أرى سببا لظنك أني أردت اهانتك! ما مصدر الإهانة؟ فالأمر ما زال غامضا في ذهني البليد! ثم ما وصفت هنا منذ خمسة وستين عاما، وأنا ما زلت في البحث عن جواب مقنع.. وقد وجدته أخيرا! فهو يكمن في حمق العرب! نعم، يا مس فيونا هو يكمن في حمق العرب.. في القيم الموروثة من القرون الوسطى!
بقلم فخري شهاب
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق