
حرك بعض أعضاء مجلس الأمة المياه الراكدة في مشهد التعليم الذي تعرض الى الاضرار والانتكاسة منذ القرار السابق في فرض عدم الاختلاط في مراكز التعليم في الجامعات وغيرها من المؤسسات التربوية، بعد ان استشعر هؤلاء النواب الضيق الاجتماعي من افرازات ذلك القرار العنصري المستصغر لكيان المرأة والفارض للسلطوة البليدة التي تحط من المكانة المرموقة للمرأة التي استحضرها الدين الاسلامي العظيم في مبادئ المساواة وأخرجها من عبث العصر الجاهلي المؤذي لكرامتها وآدميتها.
والاقتراح المقدم يستحق التقدير في توجهاته في تصويب الاضرار التي لحقت بالمجتمع الكويتي بعد تعريض المفهوم الفكري التنويري الى الانتكاسة بعد تعاظم دور القوى المتعانقة مع خطوط الجاهلية القديمة التي نقرأ في الكتب الماضية عن انتهاكاتها للهوية النسائية وممارسة العدمية لهذه الهوية.
ما كان لهذا القرار ان يعبر لو كانت ارادة الحكومة في ذلك الوقت صلبة تقود بالتفويض السياسي وبالتثقيف والشرح وتعمل لتقنع نواب التأييد للتوقف وذلك باظهار المخاطر التي سيفرزها ذلك القرار، ليس في جانبه المادي، وانما في معانيه العنصرية وفي ابعاد التفرقة وما تشكله من ضربة لمعاني الانفتاح التي رسخها رواد التنوير منذ افتتاح المدرسة المباركية في بداية القرن الماضي.
ذلك القرار لا يليق بالكويت المتطورة والمتداخلة مع مسار العصرنة، في التأكيد على المساواة ومحاربة التفرقة، لكن الحكومة أذعنت لأنها لم تعتد على المواجهات العسرة وفضلت المهادنة لأنها حصرت الأضرار في تكلفتها المادية في التشييد المزدوج للمنشآت وقاعات التدريس، ولم تعبأ بالاضرار الابداعية والفكرية والاجتماعية والسياسية والمعنوية لذلك القرار الرجعي.
ومن المناسب هنا ان نرسل التحية لأصحاب المبادرة على ان يستمر اصرارهم على نجاح القرار سواء في هذه الأيام أو حتى في المسار المستقبلي، فالمهم ازالة الجمود واستعادة الأبواب المفتوحة وازالة الأثقال الفكرية والقيود التي حرمت الكويت من مواكبة التطور الاقليمي والعالمي، ونقلت للعالم صورة الانغلاق والتزمت والجمود للمجتمع الكويتي المعروف بتداخله مع الثقافات والمستجدات التي نشر بذورها في مجتمع الكويت، تاريخ الكويت البحري التجاري.
لابد ان يتحرك المجتمع الكويتي في دعم هذه المبادرة، وتبدأ الحكومة في التأييد لانها، قبل غيرها، تجاهلت ثقافة الكويت القادرة على التفاعل واستخراج المفيد من المخزون الانساني الذي حقق للكويت مكانة بارزة سجلها التاريخ في النادي الأدبي الكويتي عام 1924، وفي الكتابات التي تركها الرواد في القرن الماضي مثل كتاب رحلات أمين الريحاني الذي يحمل سجلا عن اعجابه بما وجده في الكويت.
وليس من المقبول ان ترتهن الحكومة الى دبلوماسية الحياد والابتعاد بينما واجبها القيادة وترسيخ المصالح والبحث عن المنافع التي تفيد الكويت وشعبها.
ولا يكفي الارتكان الى دور الحكومة الذي استبعد شخصيا ايجابيته، وانما العمل على تحقيق الحشد النسائي المتمثل في الهيئات والتجمعات النسائية المنتشرة والتي نقرأ كثيرا عن اجتماعاتها وتوزيعها الجوائز على الخريجات والحضور في المناسبات، فهذا وقتها في الفزعة النشطة لاستثمار صيحة النواب.
لكن ذلك لا يغني عن تجنيد كل الطاقات ليس فقط في محيط النساء وانما في الاتساع في تجنيد جمعيات النفع العام التي تملأ شوارع الكويت مع محدودية نشاطاتها، ونرى في الاطارات المهنية من خريجين ومحامين ومهندسين وغيرها، الأمل الكبير بأن تتحرك بقوة من أجل خلق مناخ اجتماعي عام وداعم يبدل ميزان القوى ويجعل أهل القرار واعين لضرورات الانسجام مع هذا المناخ المنفتح، لأنني أتصور بأن القوى المضادة لن تسكت، ورغم انحسار وهجها وتخبط مواقفها منذ مرسوم الضرورة، الا أنها ستحارب متصورة بأن جرأة النواب هي الخطوة الأولى في استبدال الهيكل الثقافي والاجتماعي المنغلق الذي تسيد الساحة الكويتية منذ بداية السبعينيات، وليس من المفاجأة ان تتحدث المجموعات المعارضة عن مخططات التغريب واخطبوط الليبرالية وهدم ركائز الحشمة ومحاربة الالتزام، ونعرف من التجارب بأن هذه القوى ستلجأ الى التشنيع والتهديد وتشويه النوايا وربما الى التكفير وتهمة الزندقة لأن خوفها ليس محصورا في مصير عدم الاختلاط وانما من احتمالات ضياع النفوذ وتلاشي الهيبة وتذبذب المكانة لدى أصحاب القرار ولدى الكوادر المختلفة التي بنتها وشيدت لها فروعا ومكاتب في جميع مناطق الكويت، وأكثر من ذلك الخوف والهلع من الصحوة الثقافية والفكرية التي ستدفع نحو تراجع المفاهيم المسطرة في الكتب التي صدرت منذ قرون ماضية وتحمل دعوات اغلاق الأبواب وتجميل التخدنق في ثقافة الأعراف والتقاليد والخوف من التجديد.
اسقاط عدم الاختلاط يحمل حيوية خاصة في أبعادها السياسية أكثر من جمع طالبات وطلبة في مبنى واحد، ونجاح النواب في مسعاهم هو عودة التأثير الى منابع الاعتدال الكويتية التراثية، وبداية الهزال في تحكم الذهنية المتشددة والماضوية في فرض املاءاتها على السلوك الكويتي فكريا وسياسيا واجتماعيا، واذا كانت هذه القوى نجحت في فرض القديم بتساهل من حكومة الكويت آنذاك، فانها الآن ستحارب وبقوة ضد ضياع السطوة والنفوذ.
وهنا لابد ان يشعر نواب المبادرة بأن خطوتهم تستند على التفاف شعبي يؤمن لها زخما مستما، ومؤثرا، وليس مجرد هبة عاجلة بعمر قصير.
ونأمل ان تتحرك أدوات الاعلام ولاسيما في القنوات الفضائية في طرح هذه المبادرة للمناقشة مع فتح منافذ الحوار لاستدعاء كل التجمعات والدوائر لتعم الفائدة ويكون الحراك، شعبيا وجماعيا.
فقدت الكويت، في الأسبوع الماضي، أميرة الخير البارزة السيدة غنيمة الفهد المرزوق حاملة هموم الفقراء ونجمة العطاء والسخاء، والباحثة دوما عن هيئات تعطيها عن تجمعات تتبناها وعن جمعيات تؤازرها، ومدارس تبنيها.
في بداية الخمسينيات قرأت لها مقالات في مجلة اسمها «الوعي» تصدر من النادي القومي الموجود آنذاك، في شارع أحمد الجابر، في رثاء شقيقها مرزوق فهد المرزوق، الذي توفي في عز الشباب.
لم أكن أعرف عنها شيئا سوى تلك الكلمات الراقية في أحزانها والرائعة في معانيها والعميقة في تأثيرها، وشعرت من تلك القطعة الأدبية العالية في الرثاء، بأن صاحبتها تملك سطوة القلم في قدرة فريدة على صوغ المفردات ليخرج منها البيان الفصيح.. كان ذلك منذ أكثر من ستين سنة.
وعرفتها شخصيا، فيما بعد، متأثرا باعجاب بتلك الموهوبة الفريدة في سهولة نحت الكلمات وترويضها لفنون الابداع، والتي حملتها الى مسار الصحافة الهادفة متمثلة في مجلة «أسرتي» في مطبوعة تقدم غذاء فكريا وأخلاقيا نابعا من القيم الانسانية العالية التي تحملها السيدة غنيمة المرزوق.
كنت أشعر بأن حياتها أسيرة للخير ولأسرتها ولأولادها تحتضنهم بأفكارها وأخلاقياتها، وكنت أقول لها لا خوف عليهم، فقد شربوا من منبع الأخلاق الصافي، فترد بخشوع عجيب بأن الانسان في طاعة الله وهدايته.
من دون شك ستظل المرحومة غنيمة الفهد المرزوق أبرز آبار الخير، في حياتها ثراء للناس وفي غيابها أحزان لهم..
رحمها الله وأسكنها واسع جناته، ونردد {… كل نفس ذائقة الموت}.
بقلم: عبدالله بشارة
رئيس المركز الدبلوماسي للدراسات
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق