آخر مقالاتي المنشورة كان حول مقاربة أولية لإحدى الإشكاليات العميقة التي تكتنف الهيكلية الإدارية لوزارة الصحة، وهو ما نال اهتمام بعض القراء من ذوي الاختصاص أو الاهتمام بالشأن الصحي، إلا أنني فوجئت بكم كبير من اللوم من بعض الأصدقاء كان متمحورا حول اتهامي بـ… الفضاوة!
رغم دهشتي للوهلة الأولى من ذلك الاتهام المزعج، إلا أن تبريرات أصدقائي أعادتني في الحقيقة لعالم الواقع المر الذي نعيشه، وهو المشغول دوما بالشعارات الكبرى، والعناوين العملاقة، من فساد وأكثرية وأقلية وأموال عامة وأزرق وبرتقالي وأحرار وعبيد ووو..إلى آخره من مصطلحات فضفاضة غير محددة الهوية والملامح والتي تم ملء فضائنا السياسي والاجتماعي بها إلى حد أضحت معها أي مقاربة موضوعية لمشاكل محددة تبدو صغيرة وفارغة و«فاضية»، حتى لو تعلق الأمر بالمؤسسة المعنية بصحة الانسان وسلامته النفسية والجسمانية!
من ذا الذي يريد «تضييع» وقته في نقاش هيكلية وزارة الصحة وبعض مشاكلها العميقة والمزمنة، فهذا حديث يتصاغر عند «قضايا» أهم وأخطر، مثل حق المواطن في العلاج في الخارج، أو اسقاط القروض، أو زيادة الرواتب، أو توظيف البعض في المؤسسة العسكرية الفلانية أو الهيئة الاستثمارية العلانية!
وبعيدا عن الكوميديا السوداء في ما سبق، إلا أن ردة فعل أصدقائي تعود لتذكرني بإحدى الأزمات الرئيسية التي نعاني منها في بلادنا، ألا وهي الإغراق في تناول الشعارات العامة والقضايا الاستهلاكية على حساب التعمق في فهم بعض المسائل التي أخالها رئيسية لتطوير أنظمة الدولة الإدارية وأدواتها التنفيذية، وهو الأمر الذي يشكل بدرجة أو بأخرى أحد الفروقات الرئيسية بيننا وبين الدول المتقدمة حيث يهتم المواطن بالتعامل مع الأفكار المحددة المتعلقة مباشرة بتنظيم العمل في مؤسسات الدولة المختلفة، وتتنافس الأحزاب السياسية في تلك الدول في إطلاق البرامج الواضحة المتعلقة بالتطوير الإداري والمالي لمختلف قطاعات الدولة.
إن هذا الإغراق في الشعارات العامة هو ما ينتج هذه الحالة المشوهة من التناقضات التي يحملها الكثيرون منا، والتي يدلل عليها مطالبة البعض منا بمراجعة ملفات معينة متعلقة بفشل الدولة في استثمار مواردها المالية من جهة، ونسيان كل هذا عند تغذية نزعات استهلاكية محضة كتوزيع فوائض الميزانية على المواطنين أو إنشاء شركات فاشلة يتم توزيع أسهمها على المواطنين أو تسديد الدولة لقروض المواطنين أو فوائدها، أو غيرها!
إن استشعار المسؤولية يتطلب منا شيئا من الإبحار عكس التيار في ما يخص تناول المواضيع بشيء من التحديد، فأنا أزعم أن الكثير من أبناء جيلي قد سئم هذه الإطلاقات والشعارات الكبيرة، وبدأ في التعامل مع المشاكل المزمنة التي تعاني منها الدولة بقدر أكبر من المسؤولية والمباشرة، ومن هنا كانت فكرة مقالي السابق عن بعض مشاكل وزارة الصحة.
أخطر ما في الأمر هو أن يكون النزوح للشعارات الكبيرة والاستهلاكية يجسد في جوهره حالة من اليأس من إصلاح الأوضاع وفق نظرية المؤامرة التي تجعل الجميع لا يؤمن بوجود أي رغبة إصلاحية لدى أي جهة في البلاد تجاه قضايانا الملحة ومشاكلنا اليومية..
فإن كانت هذه النظرة صحيحة لا سمح الله-..عندها فقط.. أكون.. فاضي.. وما عندي شغل!
Twitter: @alkhadhari
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق