قبل عقدين من الزمان كان الكويتيون يتندرون على دول عربية يزورونها آنذاك ويلجأون إلى دفع المقسوم لموظفي المطار أو الجمارك أو مسؤولين آخرين لتضبيط أمورهم وتخليصهم عناء الزحمة أحيانا أو التجني الأمني عليهم أحيانا أخرى، وبعض هؤلاء المسافرين حلفوا أيمانا بأنهم لن يعاودوا زيارة هذه الدول الفاسدة التي تعلي من شأن الرشوة وإفساد ذمم مواطنيها، إلا أن المفارقة التي تسترعي الانتباه والتوقف مليا أمامها أن ما كان مستهجنا قبل عقدين من الزمان بات مشاعا في مجتمع يتمتع مواطنوه بعيش رغيد ومستوى رواتب جيد مقارنة بالمتطلبات الأساسية للحياة.
قصص الرشوة لم تعد أحاديث تروى عن بلدان عربية وإنما باتت حكايات مرة يتداولها كويتيون مخلصون بحرقة عما آل إليه وضع الديرة وسيادة مبدأ ادفع لترتاح أو كما قال البناء عبدالحسين عبدالرضا في أوبريت قديم: «حط فلوسك بالشمس واقعد بالظلال».
ولئن بدأت الأمور في أعلى السلم حينما تراخى مسؤولون عن واجباتهم ووسعوا ذممهم للاستفادة من مشاريع تتولاها الجهات التي يشرفون عليها ووجدوا أنها باب ثراء سريع لهم فإن ما يؤسف له أن يصبح ذلك الباب مشرعا على مصراعيه وليصبح إنجاز المعاملة في أحيان لا يتطلب أكثر من تعبئة رصيد هاتف متنقل بمبلغ لا يتجاوز الخمسة دنانير وهو ما يعكس الحالة المتردية التي وصلت إليها القيم الاجتماعية التي جعلت من الوظيفة العامة ليس مجالا للخدمة المجتمعية وتيسير أمور المراجعين وإنما نافذة للكسب غير المشروع وبما يستتبع تعقيد الاجراءات وتصعيبها لإرغام أصحاب المعاملات على البحث في الأبواب الخلفية عمن يسرع لهم أمورهم باللتي واللتيا.
حكايات الرشى كثيرة وآلياتها متعددة ولايزال في ذاكرتي بعض منها حيث يتندر أهل مدينتي بالمسؤول الذي تفتق فكره عن إصدار مجلة إعلانية أسبوعية ويرغم التجار او اصحاب المحال المتعاملين مع الجهة الحكومية التي يشرف عليها بنشر إعلان عن بضاعتهم في مجلته تلك أو أن يكون العقاب مصيرهم وهو قادر على ذلك في ظل ما يتمتع به من لوائح مطاطة تجيز له العثور على مخالفات لديهم وتحميلهم عبء دفع غرامات بمئات الدنانير أو اختيار إعلان لديه بعشرات الدنانير فقط.
الرشوة في المجتمع الكويتي لم تنشأ من واقع حاجة فعلية للمرتشين لتحسين أوضاعهم المعيشية وإنما نشأت من بوابة أن: من صادها عشى عياله، وهي قناعة تولدت بعد تفشي الفساد الإداري في أروقة الجهات الحكومية وكثرة الحديث عن قياديين انتفعوا من مناصبهم دون أن تطالهم يد القانون ما قدم الحجة لضعاف النفوس إلى تبرير نهج تلقي الهدايا والهبات والإكراميات من المراجعين طواعية أول الأمر ثم إرغاما في نهاية المطاف.
ورغم زيادة وتيرة الجرعة الدينية في المجتمع عما كانت عليه في عقود سابقة وشيوع ثقافة الحلال والحرام إلا أن ذلك، وهي مفارقة مضحكة، لم يؤد إلى تقليل المتعاملين بالرشى المحرمة شرعا والمجرمة قانونا وإنما وسع دائرة المتعاملين بها من غير العابئين بأن سيادة هذه الثقافة يعني انحدار المجتمع إلى درك من السوء لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى حيث يقضي الفساد حينها على أي فرص بتقدم المجتمع أو نموه.
المصدر جريدة النهار
قم بكتابة اول تعليق