يقال في التراث العربي والأدب العالمي إن هناك ثلاثة مستحيلات ليس لها وجود “الغول والعنقاء والخل الوفي”، فالغول ذلك الحيوان الخرافي الذي صور أحيانا على شكل إنسان ضخم وعين واحدة في قمة رأسه، بينما صوره البعض الآخر بأفعى ضخمة تهيم في الطرقات على غير هدىً تلتهم كل من يعترضها، أما العنقاء ذلك الطائر الخرافي الذي ورد ذكره في الأساطير الإغريقية والقصص الشعبية، خصوصاً قصص ألف ليلة وليلة، وبالتأكيد لم يره أحد ولم يشهد وجوده أحد، ولكن ذلك لم يمنع مخيلة فنان من رسمه وبالصورة التي وصلت إلينا وتناقلتها القصص والأساطير. ولعل “خطة التنمية” التي قدمتها الحكومة وأقرها مجلس الأمة عام 2008 ورصد لتنفيذها 37 مليار دينار، قد استوحت بعض تلك الصفات من الغول والعنقاء، فهي تسير على غير هدى، وضعتها مخيلة فنان، فليس لها وجود في الواقع، فلا أحد يعلم متى بدأت؟ وأين؟ وماذا أنجز منها؟ ومن المسؤول عن تنفيذها؟!
علماً أنها تتضمن إقامة “مدينة الحرير” التي تشتمل على إنشاء برج مبارك، وهو أعلى برج في العالم أو هكذا يجب أن يكون، إضافة إلى ملاعب رياضية ومجمعات تجارية ومدن صحية وإنشاء 48 ألف وحدة سكنية وتطوير جزيرتي فيلكا وبوبيان… و… و… وبعد. ألا تستحق هذه الخطة “الخرافية” أن تحتل مكان الغول أو العنقاء أو حتى الخل الوفي في ترتيب المستحيلات.
وقد أعلنت قبل أسابيع خطة تنمية جديدة بقيمة 125 مليار دولار… فيا ترى هل سيتم تنفيذها أو بعضها ومتى؟ أم أنها ستأخذ دورها في طابور المستحيلات؟
وهنا يمكن أن نتساءل: هل من المستحيل أن يتم بعد شهر أو أكثر قليلاً طرح عدة مشاريع لإقامة جسور وأنفاق وحدائق عامة ومدن سكنية نموذجية ومستشفيات حديثة ومطار جديد وغيرها من مشاريع مهمة وحيوية على أن يبدأ التنفيذ الشهر الذي يليه، ويتم إنجازها خلال سنتين أو ثلاث على الأكثر، على أن يتم اختيار العرض الأعلى سعراً والأسرع والأكثر جودة، ويسند أمر تنفيذها إلى شركات عالمية كبرى لتحويل الكويت بأكملها إلى ورشة عمل لا تتوقف، على أن يتم تجاوز ما يسمى بالدورة المستندية وغيرها من بيروقراطية قاتلة وعدم الاستماع لمن يحاول تكسير المجاديف.
خصوصاً أن هناك دعماً غير محدود من القيادة السياسية التي تشعر بهواجس المواطن وطموحاته وتطلعاته… ونستشهد هنا ببعض التجربة التي مررنا بها أثناء عملنا في عدد من دول العالم، ففي مملكة هولندا، وبالتحديد في مدينة لاهاي كان هناك شارع يربط بعض المناطق السكنيه بوسط المدينة لا يتجاوز طوله الكيلومتر الواحد ويتميز بازدحام غير معقول نظراً لوجود عدد من المدارس والحدائق والمكاتب وغيرها؛ لذا فقد تم اتخاذ قرار لإنشاء نفق يمر تحت تلك المنطقة ويتجاوزها وبالفعل نصبت لوحة تفيد بأنه سيتم البدء بالمشروع بتاريخ 19/ 9/ 2007 وسينتهي بتاريخ 19/ 9/ 2008، وفي صبيحة ذلك اليوم تم افتتاح ذلك النفق دون أن يشعر أحد بذلك ودون مخلفات أو حفر بلوحة معمارية فنية غاية في الإبداع تصميماً وتنفيذاً، وأنا على يقين أننا لسنا أقل من دول العالم ولدينا الإمكانات المادية والبشرية وغيرها.
ونأتي إلى ثالث المستحيلات، وهو الخل الوفي، فأعتقد أن هذا القول جانبه الصواب فالدنيا مليئة بهم والتاريخ يسطر ملاحم بمواقفهم، فما بالك بخلّ كان مع الله ورسوله في الغار “إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا”، إنه الصديق الصدوق أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، والدنيا مليئة بالخلان والأصدقاء الذين يصدقون القول لا الذين يصدقون ما يقال ويصورون الأمور بغير واقعها بنفاق وتدليس، فالمهم إرضاء المسؤول للاحتفاظ بالمنصب حتى لو كان على حساب الوطن.
في شهر فيراير عام 2005 كلفت بترؤس وفد دولة الكويت إلى مؤتمر “الإدارة الرشيدة” الذي عقد في البحر الميت بالأردن الشقيق على مستوى رؤساء الوزارات، وكان لي شرف تمثيل سمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، وكان يشغل وقتها رئاسة مجلس الوزراء. تميز المؤتمر بدقة التنظيم وحضرته ست عشرة دولة عربية بالإضافة إلى منظمة الأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية والإقليمية، وكان شعار المؤتمر “الإدارة الرشيدة في خدمة التنمية في البلاد العربية وتقوية إدارة الحكم، والمشاركة الشعبية والشفافية والمساءلة وحكم القانون وتحقيق الازدهار “وبالطبع رفعت هذه الشعارات الخرافية أعداد المستحيلات خصوصاً في عالمنا العربي!
استمعت إلى بعض كلمات رؤساء الوفود العربية فتخيلت أنها تتحدث عن مدينة أفلاطون الفاضلة التي يعيش فيها المواطن العربي، وقد غدا محل حسد من مواطني العالم بأسره… التفت إليّ الأخ العزيز الدكتور ناصر الصانع الذي كان يجلس بجانبي فقلت له “والله… يا دكتور لو لم أعمل في بعض تلك الدول على مدى سنين وعايشت المجتمعات فيها لصدقت ما ورد في هذه الكلمات والخطب الرنانة”.
حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق