ها أنذا أعود لأكتب عن موضوع قد لا يلفت انتباه العديدين وسط كل هذا الصخب السياسي والتشنج الاجتماعي والطائفي الحاصل في البلاد، فكما أسلفنا في مقالات سابقة، فقد بات الوضع في البلاد من حيث الانشغال بعناوين عامة وشعارات كبيرة من الدرجة بحيث لا تجد هذه المواضيع المحددة والمتعلقة بجزئيات «صغيرة» نسبيا الاهتمام الكافي، ناهيك عن اعتبارها ترفا فكريا وتشتيتا للانتباه عن «عظائم» الأمور في نظر الكثيرين! إلا أنني، ولرغبتي في كسر حاجز الانغماس في الصخب السياسي غير المجدي، ولإيماني بأهمية الشأن الصحي في البلاد، فسأقاوم كل الاحباطات وأتحدث في بضعة مقالات بسيطة مقبلة عن بعض مكامن الخلل في هذا القطاع الحيوي والمتعلق بشكل مباشر بصحة الانسان وحياته، وهو ما أخاله أنا… من «عظائم» الأمور… فعلا!
برغم كل الملاحظات السلبية المتعلقة بنظامنا الصحي، ومع تحفظنا على تصوير النظام ذلك بالسلبية المطلقة لإيماننا بوجود الكثير من عناصر القوة والجودة فيه، إلا أن إحدى أكبر المشاكل المعيقة لتطويره تتعلق بهيكلة القطاع نفسه وتحديد مسؤولياته، فوزارة الصحة في الكويت هي المهيمنة تقريبا على جميع مناحي لتقديم الخدمات الصحية إن مباشرة كما هو الوضع في القطاع العام، أو مراقبة وترخيصا كما هو الوضع في القطاع الخاص.
هذا الوضع، خصوصا في الشق العام منه، والمتعلق بالمستشفيات والمراكز الصحية والمستوصفات التي تتبع وزارة الصحة مباشرة، نتج عنه خلل هيكلي وتخطيطي عميق، فوزارة الصحة في حال المؤسسات الصحية العامة هي مخطط الخدمة وواضع ملامحها واستراتيجياتها وأهدافها، وهي المقدم لتلك الخدمة، وهي أيضا المقيّم لمستوى تلك الخدمات المقدمة عبر مؤسساتها ومستشفياتها، ما نتج عنه حالة من البيروقراطية وضياع الأولويات، والانغماس في الشأن والمشاكل اليومية لتقديم تلك الخدمة، ناهيك عن الفلسفة «الدفاعية» الملونة لسياسات الوزارة وتعاملها مع المشاكل التي تبرز بين الفينة والأخرى، فالوزارة تجد نفسها أحيانا كثيرة في موقع التبرير للكثير من الملاحظات السلبية التي قد يبديها البعض وخصوصا في المؤسسة التشريعية، على سير العمل في المستشفيات وما يعتريه ذلك من مشاكل إدارية وتنظيمية وأخطاء طبية وغيرها، ما نتج عنه الكثير من التخبط عبر العقود الماضية وضياع الأولويات، وضعف التركيز على تطوير العنصر البشري وهو عماد العمل الرئيس في القطاع الصحي.
هذا الوضع يجعل الكويت في مصاف الدول المتأخرة نسبيا من حيث الهيكلية الفعالة لإدارة القطاع الصحي، حيث الوضع الأفضل يكون مشابها للدول المتقدمة في هذا المجال والتي قامت بإصدار التشريعات والتنظيمات التي جعلت من المستشفيات مؤسسات مستقلة خاضعة لمراقبة الوزارة لا إدارتها المباشرة، وذلك عن طريق الاستعانة بمجالس إدارية ومجالس أمناء وميزانيات مستقلة للمستشفيات تتم محاسبتها بناء عليها، ويرتبط الحكم عليها بجملة من الأهداف الواجب تحقيقها ضمن مدة زمنية معينة.
إن تبني هذا الاتجاه الإداري العالمي في إدارة المنظومة الصحية هو خطوة جبارة للأمام، ويتطلب مقدمات تشريعية وإدارية وفنية كثيرة، وقبل ذلك كله يتطلب دعما واضحا من القيادة السياسية، وهنالك الكثير من الأطباء الكويتيين ممن قاموا بالعمل على مسودات ومشاريع واضحة ومحددة بهذا الاتجاه..
نرجو من أصحاب القرار… الاستماع لهم!
د. سليمان الخضاري
Twitter: @alkhadhari
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق