يشكو الكاتب أو المعلق الاجتماعي من كثير مما يدور حوله في الكويت من أحداث، ولكنه لا يستطيع أن يشكو من قلة ما يستوجب الشكوى منه. الا أنني في الكويت أشكو من مشكلة فريدة أخرى: وهي كثرة المشاكل المحيطة بي وصعوبة انتقاء بعضها، وتفضيله على بعض! وأنا أشبّه نفسي بالغريق في بحر ثائر: لا أدري الى أين أوجه جهدي للوصول الى شاطئ السلامة! وهذا معناه أني لا أُعدم وجود مشكلة أو محنة تستوجب التعليق عليها يوما ما. وكأنني كواقف في مركز دائرة تحيطه 360 درجة من المحن – كلها تستدعي التعليق عليها، وهي كلها من الأهمية مما يستدعي التعليق عليها فورا وفي آن واحد! فكيف وماذا أستبعد، وكيف وماذا أؤجل، وكيف وماذا أختار؟
وبناء على ما تقدم، فقد قررت أن يكون اختياري اعتباطا: وهو اختيار لا يبرره منطق ولا ضرورة، ولكن ما الحيلة وما البديل؟
وقع اختياري اليوم على وزارة الصحة، وما يدريك ما وزارة الصحة! ان هي لمخلوق ضخم، جهم، فريد.
هل المرضى راضون؟
أول المآخذ على هذه المؤسسة العتيدة اسمها: فهي أجدر بأن تسمى «وزارة السقم والويلات»، لا وزارة الصحة؛ واذا اعترض عليّ في ذلك أحد، فلنحتكم الى حل ديموقراطي محايد: لنستخدم طريقة احصائية بدائية: نسأل أول عشرين مريضا ومريضة راجعوا المستشفى (أي مستشفى كان: مستشفى العيون، أو العظام، أو مبارك الكبير، أو الأميري…الخ.) صباح أي يوم (او عصره)، ولنسأل هؤلاء العشرين مريضا ومريضة ممن يغادرونه: هل هم راضون عن العناية التي تلقوها فيه، ولنحرص على معرفة نسبة من رضي بما لقي في مراحل زياراته المختلفة للمستشفى: المعاملات الورقية، بما في ذلك استخراج ملفه من مكتب الملفات، والمدة التي استغرقها ذلك، ولقاؤه مع الطبيب المداوي، وتلقيه بعض العلاج، او الفحوصات على أيدي الممرضين والممرضات، ومدد الانتظار في كل مرحلة، وأخذ الدواء من الصيدلية، وما تلقاه من تعليمات من الطبيب والصيدلاني عن خصائص الدواء وكيفية تناوله، ثم تاريخ عودته إلى المستشفى. وأنا، يعلم الله، رجل فقير، ولا يخجلني إعلان ذلك، وما كنت مقامرا قط في حياتي، ولكني مستعد أن أعطي أي مؤسسة خيرية يختارها مراهني مبلغ الف دينار كويتي اذا زاد عدد المرضى والمريضات على اثنين سعيدين بما لقوا من «عيّنة» العشرين مريضا الذين اخترناهم في مثالنا المتقدم! بل أذهب الى أبعد من ذلك – أنا لا أظن أن نسبة المراجعين السعداء بنتائج معالجتهم لا يرقى الى نسبة عشرة في المائة! وهذا الرأي بني على خبرة تمتد من سنة 1963 حتى يوم كتابة هذه السطور؛ ولو سجلت خيباتي في مراجعاتي للمستشفيات الحكومية في الكويت لملأت سفرا يزيد حجمه على حجوم ملفاتي في مستشفيات ثلاثة، كتب عليّ الباري عز وجل ان أقاسي عذابها في هذا البلد الكريم. وتدعوني الأمانة في رواية خبراتي الى القول إني كنت راجعت المستشفى «الأميركاني» يوم زرت الكويت طفلا، وذلك أكثر من ثمانين عاما، ولم أكن كويتيا حينذاك، ولا كنت مقيما في الكويت، بل زائراً طارئاً، فلقيت من الرعاية والعناية فيه مجانا ما لا يحلم به الكويتيون المقيمون في الكويت على يد وزارة الصحة في دولتهم المستقلة اليوم، فما رأي صاحب المعالي الدكتور وزير الصحة الموقر؟ بل ما رأي الدكاترة الكويتيين والدكتورات الكويتيات في خدمتهم آباءهم وأمهاتهم واخوانهم وأخواتهم من أبناء الكويت نفسها؟ هل سألوا أنفسهم هذا السؤال؟ ولمَ لم يفعلوا؟ ما علة سكوتهم الطويل؟ وأين صراخ ضمائرهم الحية؟ أم هم لا همّ لهم الا زيادة رواتبهم ومخصصاتهم وامتيازاتهم التي لا حصر لها ولا تصدق!
****
مشاكل وزارة الصحة في الكويت تتجاوز الحصر، منها مشكلتان اثنتان يجب أن يواجههما المسؤولون بشجاعة وحكمة: أولاهما أن الأطباء هم ليسوا خير من يصلح لإدارة وزارة الصحة، والقاعدة في الكويت أنه اذا كان الشخص كويتيا بالولادة، وطبيبا ممارسا، فهاتان الصفتان تؤهلانه لتولي المنصب. والطريف أن أول وزير كويتي تولى المنصب وكان من أفضل من شغله لم يكن طبيبا، بل كان أبرز تجار الكويت، الصديق الخالد الذكر المرحوم عبد العزيز الصقر. الطبيب الحريص على خدمة الكويت وأهلها هو الطبيب الذي يمارس مهنته كما أقسم على ممارستها حين أكمل دراسته: فساحة جهاده غرفته في مستشفاه، حيث يستقبل مرضاه، لا كرسي الوزارة. وفي بريطانيا، أم الديموقراطية العصرية، قلما تولى وزارة الصحة طبيب.
تراكم الأخطاء
أما المشكلة الثانية، فهي أن وزارة الصحة في الكويت قد تراكم فيها من اخطاء النظم الادارية المستعارة من الدول العربية الأخرى ومساوئها ما لا يمكن حصره ولا علاجه؛ وقد اقترحتُ على أحد رجالات الكويت البارزين منذ سنوات اقتراحا لم يأخذ به، لأنه يتضمن حلا شجاعا سيستنكره السياسيون غير المحنكين الذين تحركهم العواطف لا التجربة.
قلت لصاحبي إن هناك بلدا اسكندنافيا معروفا بنظام صحة ممتاز لا يعلى عليه: هو «فنلندا». قم بزيارتها وحاول اقناع المسؤولين فيها أن يوفدوا وفدا يتعرف على تركيب وزارة الصحة هنا، وطرق العمل ونوعيته في مختلف أرجائها، لاستبدال نظام عمل تام جديد بما يطبق اليوم، ويُتفق مع الحكومة الفنلندية على صيغة تعوضها عن الكلفة زائدا واحدا في المائة (مثلا)، ويشرف على الصرف لجنة مشتركة من الحكومتين، فإذا نجحت التجربة تُعْهَدُ الإدارة بعدئذ، بمناقصات علنية تجارية يعلن عنها في الأسواق العالمية، ويتم كل هذا برقابة برلمانية وشفافية لاغبار عليها؛ واذا رفع أحد النواب الأفاضل صوته معترضا على هذا التصرف غير المسبوق، رد معالي الوزير أنه يتفق مع سعادة النائب الفاضل فيما تفضل به، ولكنه يسترعي نظر سيادته الى أن المشكلة التي تواجهها الكويت، أي المرضى الكويتيين والمريضات الكويتيات والأطفال والمعمّرين منهم والمعوقين الكويتيين والمعوقات الكويتيات، فقد انتظروا نيفا وستين عاما أي، منذ ترك الإنكليز (الله يذكرهم بالخير) شواطئ هذه الديار حتى الساعة الحاضرة، انتظروا أن تحل سلطات الدولة الكويتية مشاكل الصحة (او المرض بعبارة أدق)، فلم تزدد الحالة الا سوءا، سنة بعد أخرى، حتى وصل أنين المرضى والمريضات وضجيجهم عنان السماء! وأن جهاز الصحة الإداري عاجز عجزا تاما عن اصلاح نفسه، وأن الأزمة قد بلغت حدا لا يجوز بعده الانتظار، وأن الحكومة كان قد خطر لها دعوة مؤسسة الصحة العالمية لمساعدتها في حل محنتها، ولكن الأخيرة تشكو من مشاكل لا حصر لها، وأنها لو خفت لمساعدة الكويت لزادت البلوى، وعظمت المصيبة؛ وأن الاستعانة بفنلندا أفضل بكثير من الاستعانة بإسرائيل!
وأخيرا فقد حصلت لكاتب هذه الحروف (وهو يكتبها وحياض الموت تستدعيه بإصرار) قصة شخصية لا تصدق في احد مستشفيات الكويت المعروفة، يخجله ذكرها جهارا، فإذا أراد مسؤول في وزارة الصحة سماعها على صعيد خاص، وكان عنده من الوقت متسع لسماعها، فقد أطلعه على ما جرى مجانا، ليرى كيف يلتزم الأطباء في الكويت بقسم «أبقراط» العظيم!
ثم أعود، فأذكر قول الشاعر العربي المأثور: «لقد أسمعت لو ناديت حيا»، فأندم على الكتابة والكلام!
فخري شهاب
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق