عبدالله بشارة: مباهج العدالة.. وآلام التخريب

مع انحسار التوتر السياسي والاجتماعي بعد خروج النائب السابق مسلم البراك بكفالة مالية من احتمالات السجن، وتأجيل المحاكمة الى جلسات قادمة، نتوقف هنا مع ملاحظات واضحة على المشهد السياسي الكويتي تتعلق مباشرة بالحالة الديموقراطية وطبيعتها ونوعيتها وحقائقها، وبعد ان ألقت الأحداث بظلالها على حقيقة الديموقراطية التي نتحدث عنها كثيرا في الكويت، ونتجاهل عجزها عن تجاوز القيود المزمنة التي عرقلت تطورها.
جاءت آراء متباينة معبرة عن قلق ومخاوف من انحدار الوعي الديموقراطي لدى شرائح المجتمع الكويتي بدون استثناء، لاسيما مع القراءة السياسية لواقعة مسلم البراك، حيث لا يمكن المرور العابر على قدرته وتمكنه من اثارة الاستنفار القبلي وترسيخه للقبلية السياسية التي استجابت في فزعة تجمعية حصنت الديوان والمقر، وأنشأت سياجا بشريا وسياسيا ومعنويا التف حوله المناصرون، في موقف رافض لصوت القضاء ولقرار المحكمة، ومع استخراج مبررات اجرائية كذريعة للتعطيل وافشال مساعي أجهزة الداخلية في تنفيذ الحكم.
وهنا لابد لنا من التأكيد على ان الديموقراطية الحقيقية هي حكم القانون وسيطرته وتسيده على الجميع، لا فرق بين أهل الذهب وأهل الحطب، وأصحاب المتاجر وأصحاب المباخر، هي المساواة أمام القانون، واذا تعثر تطبيق القانون على كل الأفراد والفئات فان الديموقراطية تنهار وتتحول الى ديكورات ويافطات وممارسة تصويت دون روح أو جوهر ودون التزام بتطبيق آليات الديموقراطية.
وقد جاءت القنوات الاخبارية العربية والأجنبية الى مواقع الأندلس ناقلة بالصوت والصورة ومباشرة الى بقاع العالم، ليشاهد الجميع كيف فرخت الديموقراطية الكويتية الحماية القبلية وكيف فشلت في تحقيق الوعي الشعبي المؤمن بأن الحماية الحقيقية تقع في حصن القانون ولسانها صوت المساواة وفاعليتها الامتثال لحكم هذا القانون.
وقد رأى المشاهدون في الداخل والخارج أن الكويت لم تنجح في اعلاء شروط الديموقراطية ومتطلباتها وحقائقها ولم تفلح في رفعها فوق حصون القبلية السياسية، وقد شاهد الناس الفزعة في استجابة لنداء التعاضد القبلي الذي وضع هذا التجاوب فوق حق القانون ودون الالتفات الى الاجراءات التي وفرها نظام المحاكم للاعتراض على أحكام القضاء.
نحن نتحدت عن المفهوم الشمولي لمعاني الديموقراطية، ونستعرض حالة النائب السابق مسلم البراك كمثال على عجز آليات الديموقراطية الكويتية عن استحضار الرافعة القانونية والسيادية وفشلها في اعلاء شأنها لتضعه فوق السياج القبلي، ولابد ان نعترف بالاحباطات التي أفرزتها حادثة الأندلس ونعترف باخفاق نصف قرن من التعامل مع بنود الدستور.
كثيرا ما نتحدث عن العلو السامي لمعاني المواطنة التي مقرها فوق كل المفاصل القبلية والطائفية والفئوية، لأنها المفتاح المؤثر للدخول الى أبواب النجاح الديموقراطي، واذا ظلت هذه الأبواب المتعلقة بالديموقراطية الحقيقية مقفلة فلا مفر من انتشار القبلية وترسيخ عروقها.
نحن الآن أمام سؤال محرج في قدرتنا على الرد على الذين يقولون إن ديموقراطيتكم ديكورية سياسية وأنتم مجتمع خليجي قبلي وطائفي، لا تختلفون عن أشقائكم في مجلس التعاون سوى بحرية اعلامية وممارسة انتخابية موسمية، وأنكم فشلتم في النهوض في مسار التنمية وغيركم في الخليج، وبدون برلمان وحتى بدون نفط تمكن من القفز أمامكم.
وبسبب هذا التقهقر فان الآخرين من أشقائكم في الخليج لا يجدون في تجربتكم الاغراء الذي لا يقاوم يدفعهم الى اعلاء صوت التغيير.
هذه أسئلة جاءت في نشرات وضعتها أقلام محترفة من مراكز دراسات بريطانية.
ومن الملفت للنظر في متابعة مشهد القبلية السياسية في الأندلس، بروز أسئلة وملاحظات حول العدالة الانتقائية، بالاشارة الى ان هناك آلاف الأحكام لم تنفذ وأن الأولى بالمرجعية السياسية في الكويت ان تلاحق الآخرين أيضا الذين لازالوا يمرحون ويسرحون أحيانا في تخفي ومعظم الأحيان يوجدون في أماكن معروفة.
وبكلام صريح ان هناك اختلالا في ميزان العدالة كما أشار الدكتور محمد المقاطع في مقاله يوم الخميس الماضي، في صحيفة القبس، حول الاحكام التي عطلت ووضعت على الأرفف لانها تمس وجهاء القوم وساستهم، وهناك آلاف الأحكام حول شيكات بلا رصيد وحول تجارة مخدرات وسرقات من المال العام.
في الديموقراطية لا مكان للهروب من أحكام القضاء، ونقرأ في لندن عن حبس الوزير البريطاني الذي سجل مخالفات المرور باسم زوجته، ويجلس الآن في السجن كشاهد على العدالة التاريخية، بينما الفوضوية الانتقائية لا زالت تعشعش في اختيارات التطبيق في الكويت.
ولا يمكن لنا ان ننسى الاخفاقات والتعثرات التي برزت في أداء الأجهزة الأمنية في التعامل مع مشهد الأندلس، وأكثر الجوانب التي لفتت النظر هي غياب المرونة في تقديم الحكم في نسخته الأصلية التي كانت جزءا من عناصر التحصين التي مارسها المطلوب النائب مسلم البراك، وما كان لمثل هذا الموقف ان يتم، بل ان من الواجب اظهار التفهم والخروج من الجمود الذي يصاحب ثقل التعليمات.
ولم تكسب الأجهزة شأنا في هذا المجال، وانما وفرت للمعترضين ساحة واسعة للمناورة، استفاد منها المناصرون الذين ظهروا حريصين على اتمام الاجراءات بشكل متكامل.
ولعل من المناقب الفاضلة في الحياة الديموقراطية الحرص على وقار رموز السلطة وحماية عناوين النظام والابتعاد عن مهاجمتها، كما تتعارض هذه الممارسة مع نصوص وروح الدستور، لكن الأحداث تخضع للانفعالات الطاغية، متى ما صار ما كان ثقيلا وممجوجا من المفردات عاديا يردده الآلاف من المناصرين، وخطورة هذا التحول ان المشهد السياسي في الأندلس حطم زجاج السقف الذي كان الاقتراب منه ممنوعا بعد ان اختفى الكابح وردد المتجمهرون وبدون مبالاة نفس الاهازيج والعبارات التي أدانتها المحاكم.
ومهما حاولنا التخفيف في أثر هذا التطاول، تبقى الحقيقة المرة ان هذا الاندفاع المتحدي مؤذ لشخصية الدولة الكويتية وينعكس سلبيا على صورتها ويقلل من نظارتها بل يعكر شأنها، ويدفع بالمشاهدين البعيدين للاستغراب من هذا التسيب الذي جاء من تعثر بائس في تطبيق القانون.
كيف تنجو الكويت من هذه الانشقاقات ومن الكدمات التي تصيب الهيكل الشامل لدولة الكويت بما فيها مقامها ودستورها؟
التحديات ليست من علو الحناجر وليست من حشد الأعداد وانما من ضرورة غرس مفاهيم التحضر وفي تبني قواعد العصر الحديث، وأهمها سطوة القانون، لا مكان لسطوات أخرى قبلية أو تجمعات دينية أو هيئات تقدمية وحزبية.
وسطوة القانون ثقافة تنتشر مع العدل والمساواة، واذا تعرض القانون لغارات بسبب نزوات أو محاباة ومجاملات، تصدعت دولة القانون وانهارت هيكلة المؤسسات.
يمكن ان تفرز الأحداث زخما قويا نحو الديموقراطية الحزبية المتدرجة، فلا جدال في أن الوضع الطبيعي في الأنظمة الديموقراطية هو تبادل السلطة وفق المفاهيم البرلمانية الدستورية، لكن الوعي الغريزي للمجتمع لازال بعيدا عن التعايش وعاجزا عن تقبل شروط الديموقراطية الحزبية، ويمكن البدء في التثقيف المتلاحق لمعاني الديموقراطية في تبادلية الاحترام بين الآراء والمواقف دون تجريحها أو ادانة نواياها.
تحقيق هذا الهدف لا زال بعيدا عن متناول اليد، والخطوة الأولى في سبيل الوصول اليه هو توسيع الفضاء السياسي لكي ينخرط الشباب في المسار الانتخابي اعتمادا على اللياقة الأهلية وليس على تجمعات دينية وقبلية.
سجلت حادثة الأندلس ومشهد المؤازرين ولوحات التطويق للديوانية، كلها بمجموعها بأنها لم تخدم الكويت ولم تحقق الغاية، ولم ترض المنصفين وحتما عرضت صورة الكويت ونقاوتها للأذى فقد كسرت حادثة النائب السابق مسلم البراك معنويات زجاج السقف الواقي.

عبدالله بشارة
رئيس المركز الدبلوماسي للدراسات

المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.