يوسف العنيزي: مقال كاد يودي بحياتي

أثناء الغزو والاحتلال العراقي الغاشم للكويت الغالية كنت أشغل منصب رئاسة البعثة الدبلوماسية في جمهورية الجزائر الشقيقة، وكانت الآلة الإعلامية للنظام العراقي تسيطر على الساحة الجزائرية بكل أطيافها ما عدا بعض الأحزاب الأمازيغية لأسباب معينة، وأحد الأحزاب الصغيرة التي قامت السفارة بإنشائه ودعمه تحت اسم “الإنسان” على الرغم من صغر عدد أعضاء السفارة التي تكونت من السفير والأخ العزيز حمد بوارحمة والأخ بدر العتيبي رحمه الله، وتدعيم الكادر بكل من أستاذي الفاضل الأخ سامي الإبراهيم والأخ العزيز فوزي المضف، ودعم ومساندة من الأهل والأولاد جميعاً، وبشكل خاص من “أم عبدالله” التي كانت تزودنا بصور كاريكاتورية معبرة.
كما قامت السفارة بإصدار نشرة أسبوعية باسم “الكويت حرة”، إضافة إلى ذلك فقد كنت أقوم بنشر بعض المقالات الصحافية في صحيفة “القبس الدولي” التي كانت تصدر في لندن، وفي صحيفة “الوطن” الجزائرية التي وافقت على إعطائنا مساحة للتعبير.
في شهر سبتمبر عام 1990 نشرت مقالاً كاد يودي بحياتي بعنوان “قصة عجوز فلسطيني”، نورده هنا مع بعض الاختصار والتصرف… “في الأيام القليلة الماضية عانيت من تسرب بعض الدم في العين، وعليه فقد طلبت الإذن بالذهاب إلى لندن لمدة خمسة أيام لإجراء الفحوصات اللازمة، كان من عادتي عند السفر إلى لندن أن ألتقي مع أحد الأصدقاء من الإخوة الفلسطينيين الذي تربطني به صداقة قوية منذ عهد الدراسة في ثانوية الشويخ، كان حوارنا دائماً يتصف بالسخونة، محوره الأساسي القومية العربية والوحدة والحرية والرسالة الخالدة، وغيرها من الشعارات التي كانت تسرق أفكارنا وتفكيرنا.
وعليه فقد قمت بزيارته في مكتبه الأنيق الذي كان يقع في أحد ضواحي لندن وقد وجدته هذه المرة شخصاً آخر مختلفاً غير الذي أعرفه، فقد انصب حديثه عن المناخ والبرد والمطر… قاطعته فلان أنت لست أنت… ماذا حدث أين ثورتك أين قوميتك؟… قاطعني قائلاً: بودي أن تلتقي بشخص يرغب بمقابلتك ثم قام وفتح باب المكتب ودخل رجل عجوز يحمل على كاهله عقوداً من السنين، وقد حفر الزمن على وجهه أخاديد عميقة امتلأت حزناً وألماً. أخرج الرجل العجوز تنهيدة حارة من قلب أضناه الألم ثم بدأ يروي… أنا فلسطيني ولدت وعشت عمري في مدينتي “يافا” الساحلية مع عائلتي وعملت في سلك التدريس. في عام 1948 حدثت النكبة وبدأت العصابات الصهيونية الإرهابية عمليات نهب وقتل وتشريد للكثير من العائلات التي تركت مدنها وقراها فراراً بشرفها وكرامتها وكنت وعائلتي من ضمن تلك الآلاف التي هجرت إلى الأردن.
في عام 1957 حططت الرحال في الكويت الغالية وعملت في سلك التدريس، وسارت الأيام وتوالت السنون وعوضني الله بالكويت خيراً وبأهلها أحباباً، وجدت عندهم العون والسند. في نهاية شهر أغسطس وأثناء الاحتلال العراقي وعندما كنت في قيلولتي سمعت صراخاً في صالة الشقة التي أسكنها، والتي تقع في إحدى مناطق الكويت خرجت من غرفتي مسرعاً، فوجدت زوجتي وبناتي وحفيداتي يصرخن وأمامهن أربعة جنود مدججين بكل أنواع الأسلحة، ورأيت في عيون أهلي نفس نظرات الحزن التي رأيتها في عين والدتي رحمها الله في يافا عام 1948، حاولت الحديث مع الجنود فدفعني أحدهم بكعب الرشاش الذي يحمله، ولم يحترم شيخوختي صارخاً، وهو ينظر إلى أهلي “امشي إحنا ما نريدك… احنا نريد…” دارت بي الدنيا وأعادت لي ذكرى سنين مرت فقد سمعت هذه العبارة من قبل في يافا، ترى كيف استطاعت العصابات اليهودية الوصول إلى الكويت، وكم كانت مصيبتي عظيمة عندما علمت أن هؤلاء هم بعض أفراد الجيش العراقي الذي يحتل الكويت.
وعادت بي الذكرى إلى تلك اللحظة وكيف تصرف والدي حيال نفس الموقف فقمنا بمسايرة الجنود والحديث معهم، وذهبت أنا وبعض بناتي إلى المطبخ بعذر عمل الشاي وتسلحنا بالسكاكين وقمنا وبشكل مفاجئ بالهجوم على الجنود، وعلى الرغم من حدوث إطلاق النار بشكل عشوائي لكن، ولله الحمد لم يصب أحد وسقط الجنود صرعى، فقمنا بجمع ما استطعنا من متاع وغادرنا الكويت الغالية إلى الأردن عبر بغداد ومنها إلى لندن”… ما إن أكمل الرجل العجوز حكايته حتى انهار ولم يتمالك نفسه، وبدأت الدموع تنهال من مقلتين أضناهما الحزن، عندها أدركت لماذا تغير صاحبي؟ فقد امتدت يد الغدر والخيانة واغتالت أحلامه وأفكاره وطموحاته فغدا مكسور الخاطر والجناح.
بعد نشر ذلك المقال وكان في شهر سبتمبر عام 1990 تلقيت عدة اتصالات تهديد ووعيد، كما قام الأخ منذر الدجاني “أبو العز” سفير فلسطين في الجزائر بنصيحتي بالتوقف عن كتابة مثل هذه الموضوعات نظراً لما قد تسببه لي من أذى. لم تثننا تلك التصرفات واستمر عمل السفارة بل تضاعف فأرواحنا ليست أغلى من أرواح قيادتنا وأهلينا الصامدين في الكويت الغالية. وشاء الرحمن أن تعود الكويت حرة ويعود وطن النهار.
حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.