عبداللطيف الدعيج: مرة ثانية.. إننا النظام

المعارضة الجديدة، كانت ردا على قطع السلطة لعلاقة الود والانسجام مع المجاميع القبلية والدينية. نتيجة مباشرة لوفاة الشيخ سعد. ونتيجة لبعض الحوادث الفردية التي ليس لها علاقة بالشأن العام.

عندما نعلن بأننا النظام، وبأن الآخرين غير. فإننا لا نبالغ كثيرا وبالكاد نهضم أحدا حقه أو ننكر عليه وضعه. القوى الوطنية الديموقراطية هي المالك أو الوريث الشرعي للنظام الديموقراطي الكويتي الذي أقره الآباء المؤسسون وصدق عليه الأمير عبدالله السالم رحمه الله.

صدّق عليه وحده، خلافاً لبقية أبناء الأسرة الحاكمة الذين امتنعوا وقتها عن التصديق او الموافقة عليه. فسر الكثيرون الامتناع، أو أن التفسير الوحيد وقتها لامتناع بقية أبناء العائلة الحاكمة عن التصديق على دستور 1962 هو أنهم لم يرغبوا في التدخل أو فرض وجهة نظرهم على الشعب الكويتي. قد يبدو هذا التفسير حقيقيا ومنطقيا أيضا لو أن الشعب الكويتي اختلف وانقسم حول دستور 1962 والنظام السياسي الذي تفرع منه. لكن الشعب الكويتي كان موحدا وكان راغبا في النظام الديموقراطي، بل متلهفا عليه. لذا يبقى احتمال أن بعض أبناء الأسرة الحاكمة «رفضوا» التصديق على الدستور لأنه لم يكن متوافقا وطموحهم وخطهم السياسي هو التفسير المنطقي المقبول. أميل بشدة الى هذا التفسير، لان المسيرة السياسية للسلطة هنا تؤكده.

بعد هذا بسنوات، وبحكم التطور الاجتماعي والسياسي، ونتيجة مباشرة للغزو الصدامي العراقي طرأ تحول «سياسي» واضح على الكثير من أبناء الأسرة الحاكمة. وتحول قسم ملحوظ منهم إلى الإيمان بالدستور وبالنظام الديموقراطي كوسيلة لحفظ أمن البلد واستقراره وكوسيلة أيضا لضمان استمرار حكم عائلة الصُباح وتأكيده. وظهرت علنا وثيقة شباب العائلة التي أكد الشباب فيها التزامهم بالنظام السياسي الحالي وبدستور 1962. وانتقدوا فيها ممارسات أقطاب الأسرة وخطواتهم العدائية أو محاولاتهم البائسة للتنصل من الالتزام بالنظام الديموقراطي وبدستور البلاد. هذه، الوثيقة أو الخطوة الشبابية بأكملها ظهرت كرد على تنصل بعض أقطاب الأسرة من التصديق على الدستور عام 1962، مما يؤدي إلى اعتبارها تصديقا تاريخيا وضروريا رغم تأخره من العائلة الحاكمة على دستور 1962.

وثيقة شباب الأسرة الاصلاحية كانت بمنزلة تصحيح لموقف العائلة الحاكمة من دستور 1962 ومن النظام الديموقراطي. هذا التصحيح الذي حدث قبل عقدين، أي بعد التحرير مباشرة، لم يكن كافيا. بل هو حتى لم يوضع موضع التنفيذ، بسبب تجاهل أقطاب الأسرة وأصحاب النفوذ السياسي الحقيقي له. ولم يكن كافيا وحده، لأن بعض أفراد الأسرة على مر السنوات الأربعين الماضية تلاعبوا بالنظام السياسي وعبثوا في العملية الانتخابية وحيدوا الكثير من المواد الدستورية وأولها اساس النظام الديموقراطي، المواد الضامنة لحرية الرأي والتعبير.

لهذا كان لا بد أيضا من خطوة تتولى تصحيح العبث الذي مارسته القوى المناوئة للنظام الديموقراطي في الأسرة في الدستور وفي العملية الانتخابية بالذات. وقد أتى مرسوم تعديل آلية التصويت الانتخابي الذي تفضل به حضرة صاحب السمو، أتى بمنزلة خطوة تصحيحية أولية للعبث ومحاولة ل‍‍ «فرملة» الانحدار الذي كان يقود البعض نظامنا الديموقراطي له. وكان طبيعيا ان يواجَه المرسوم بالرفض والحرب من قبل المجاميع المستفيدة من نتائج العبث بالدستور وكان طبيعيا ان يتمسك البعض بالوضع القائم بوصفه الامثل و«الشرعي» أيضا، لأنه وببساطة متناهية «نتيجة له» ووليده غير الشرعي أيضا. رغم ان كل المحصلة الانتخابية التي سبقت مرسوم التصحيح هي نتيجة عبث مستمر منذ تزوير الانتخابات وعمليات التجنيس وهندسة الجداول الانتخابية وأخيرا تعديل الدوائر الذي مارسته السلطة منفردة عام 1982 لمصلحة أقطابها ومن تحالفت معهم من مجاميع سياسية واجتماعية.

مرسوم الصوت الواحد.. أتى لتصحيح الوضع جزئيا ووقف العبث مؤقتا. لكن المستفيدين من تزوير الانتخابات والتجنيس والتلاعب بالجداول الانتخابية لم يشاءوا – وهذا طبيعي – ان يتخلوا عن مكاسبهم أو يفرّطوا في ما تحصلوا عليه من مميزات وتفوق طوال السنوات الماضية. لهذا شنوا على مرسوم التصحيح الحرب الشعواء وكالوا له الاتهامات الباطلة التي استنبطوها مِن وضعهم هم ومن ممارسات اربابهم من أقطاب الأسرة السابقين. لهذا أصبح مرسوم التصحيح، ويا للعجب، «عبثا» وتعديا على الدستور بدلا من أن يكون، كما هو، «تصحيحا» ضروريا للوضع وانقاذا للبلد من الانحدار المتواصل الذي قضى على كل شيء.

الأغرب والأعجب من كل هذا، ان أغلب القوى الوطنية التي أتت الخطوة التصحيحية السامية لمصلحتها، أغلب هذه القوى اختارت ان تنضم إلى المجاميع المعارضة للمرسوم وان «تتحنبل» بسذاجة متناهية – إذا ازعلوا بالطقاق – في مفاهيمها الدستورية ومبادئها الديموقراطية في الظرف الخطأ وضد الطرف الخطأ. صمَتَت هذه المجاميع عن كل انتهاكات قوى التخلف والسلطة وغضت النظر عن كل التجاوزات غير الدستورية وتعايشت مع كل الممارسات غير الديموقراطية!! ولكنها وقفت ب‍‍ «صلابة» ضد المرسوم التصحيحي للانتخابات!!!! عند الاعتداء السلطوي الرجعي على حرية التعليم الذي تجلى في إصدار قانون منع الاختلاط، عندها كتبت أطالب القوى الوطنية الديموقراطية في المجلس بالاستقالة احتجاجا على هذا التعدي الواضح والفاضح على الحقوق الشخصية للأهل والطلبة في اختيار التعليم الذي يناسبهم.. لكن «قوانا الوطنية الديموقراطية» تجاهلت الدعوة وكيَّفت نفسها وقتها مثلما كيفت نفسها قبلها مع العديد من التجاوزات والانتهاكات التي ترتكبها مجاميع وقوى التخلف. لهذا كان غريبا عندي، ومثيرا للحنق ان تظهر هذه المجاميع هذه الصلابة «الدستورية» ضد مرسوم الصوت الواحد رغم انه يتمتع ظاهريا بالكثير من الشرعية التي نتمنى أن يؤكدها حكم المحكمة الدستورية المنتظر.

الأطراف المناوئة للنظام الديموقراطي في السلطة اختارت المجاميع القبلية والدينية للتحالف معها ضد «النظام الديموقراطي» وضد القوى الحية ومؤسسات المجتمع المدني واصول وقواعد الحكم الدستوري التي حددها دستور 1962. وطبعا كان التحالف متخفيا ومتدثرا بالانصياع للشرعية والالتزام بالدستور وبالمبادئ الديموقراطية.. لكن على هواه ووفقا لاجندته ومستواه الاجتماعي ورؤاه السياسية. وهكذا حاصر هذا التحالف السلطوي الرجعي النهج الديموقراطي وقيده وابقاه في حدوده الدنيا، بل نجح في أحيان كثيرة في رده إلى ما وراء بداياته وانطلاقه. ولكن مرة ثانية عندما بدا ان السلطة في طريقها إلى الانعطاف نحو المجتمع المدني ونحو تقليص النفوذ القبلي والديني الذي اصبح في نهاية الأمر خطرا على النظام العام بكل أطرافه بما فيه السلطة نفسها وذا كلفة عالية «اقتصادية بالذات» لم يكن في إمكان النظام تحملها بعد رعب انهيار أسعار النفط. عندها.. وعندما اتخذت السلطة خطوات يمكن وصفها بأنها «مدنية»، أي بعيدة عن النهجين الديني والقبلي تمثلت في محاولات الخصخصة وفي إزالة التعديات على أملاك الدولة، مواجهة الانتخابات الفرعية والحد من هيمنة «أهل الخير» في التبرعات، تقليص بعض الانفاق الريعي وأخيرا التلويح بتحويل الكويت إلى مركز مالي.. كل هذا بالاضافة إلى وجود الشيخ ناصر المحمد خريج سويسرا رئيسا للوزراء، وليس المتعارف عليه من شيوخ قبيلة «تقليديين»، كل هذا أدى إلى انفصام التحالف القبلي الديني عن السلطة. وفي الواقع انقلابه 180 درجة ليصف، بل في الواقع، ليتصدر المعارضة ضد الحكومة حينا وضد السلطة احيانا وحتى ضد النظام الديموقراطي لدولة الكويت الذي هو في تناقض اصيل معه. وهكذا بدأوا بـ «الحكومة» ثم التطاول على الذات الاميرية (السلطة الفعلية) ثم الحكومة المنتخبة (النظام).

اليوم إذ ينحسر، أو بالأحرى ينهزم، «الحراك» المعارض، فإنما ينهزم بحكم طبيعته. وذلك بوصفه حراكا قبليا، وردة فعل لا علاقة لها بالسياسة أو الديموقراطية أو حتى الوطنية كما توهم بعض «الوطنيين». المعارضة الجديدة، كانت ردا على قطع السلطة لعلاقة الود والانسجام مع المجاميع القبلية والدينية. نتيجة مباشرة لوفاة الشيخ سعد رحمه الله. ونتيجة لبعض الحوادث الفردية (استشهاد الميموني) التي ليس لها علاقة اطلاقا بالمصلحة أو الشأن العام. لكن الحراك القبلي الشعبوي الديني ينهزم مع الأسف بعد ان خلف صدعا كبيرا في الجدار الوطني، وبعد ان ترك شقا يصعب رتقه في الثوب الكويتي وبعد ان ترك غصة وخَلَق احباطا رهيبا مع الأسف في صدور الشباب.

إن ترميم أخطاء المرحلة السابقة، وهي بالمناسبة ليست أخطاء الحراك أو جماعة المقاطعة، فهم كانوا في ردة فعل طبيعية، ولكن الأخطاء هي أخطاء المجاميع الوطنية التي ساندت ودعمت الحراك القبلي الديني وأضفت عليه الوطنية ودثرته بالدعوات الديموقراطية والمدنية الزائفة. اليوم على القوى الوطنية الديموقراطية الشبابية الحقة، وليس شباب الدكتور احمد الخطيب، ان تواجه كل المتخاذلين عن دعم الحريات بغض النظر عن مواقعهم أو أصولهم أو ادعاءاتهم. لسنا معنيين بأصل أو فصل أو حتى تاريخ المدعين والمتظاهرين بالوطنية والديموقراطية، ولكننا معنيون بموقفهم من الحريات العامة ومدى دعمهم للحقوق السياسية الكاملة والشاملة للإنسان الكويتي. إن هذا وحده ما يجب أن يحدد الوطني الديموقراطي من عدمه وليس عداءه أو تطاوله على السلطة أو مواجهته للنظام.

عبداللطيف الدعيج
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.