… «التأمينات» لا تملك أي خيار في أن تسمح بالتقاعد دون تحديد سن، لان تحديد سن التقاعد واجب يحتمه ضمان استمرار الصناديق في أداء رسالتها وتحقيق أهدافها، وتاليا فإن أي اتجاه نحو الغاء السن يعد خطوة الى الوراء تمس بالأسس الفنية للنظام وتعرضه لاخطار العجز والافلاس وعدم الاستقرار.
ما سبق كان جرس إنذار من مؤسسة التأمينات الاجتماعية في الكويت تحذر فيه من اتجاهها الى الافلاس نتيجة السياسات غير الحكيمة التي تتخذها السلطة (بمختلف مكوناتها) بهدف إرضاء شريحة كبيرة جدا من المواطنين دأبا على عهدها في ذلك.
السلطة لا تريد أن تخرج في قراراتها من عباءة الحاضر ولذلك ألغت أهم وزارة يمكن أن تفتح نوافذ المستقبل… وزارة التخطيط. وهي في المثال السابق تريد أن ترضي المواطنين عبر السماح لهم بالتقاعد في أعمار مختلفة ومن دون تحديد سن واضحة لذلك ما يؤدي الى افلاس لا الى ارباك فحسب وضياع واحدة من اهم المؤسسات واكثرها ضرورة للاستقرار الاجتماعي.
وإذا كانت «التأمينات» تستطيع أن تتكلم وتحتج وتقرع جرس الانذار، فان «الحزام الاخضر» الذي نحرته قرارات السلطة كان عاجزا عن الاحتجاج فهو حزام بلا لسان، بل كان يشعر بانه نحر مرتين. مرة عندما دمرته الحكومة ومرة عندما لم يجد نصيرا واحدا له يحتج أو يعتصم أو يفترش عشبه الاخضر منعا للمزيد من التدمير.
الحزام الاخضر كان تخطيطا انكليزيا قاعدته بسيطة وعلمية ومعروفة في مختلف انحاء العالم. ان يكون رئة تتنفس منها المدينة خصوصا المدن الصحراوية وحاجزا يلعب دور الفلتر المناخي لتنظيم الاوكسجين ومكافحة التلوث البيئي. وكنا نملك هذه الرئة بامتياز في وسط المدينة حيث انتشرت المساحة الخضراء الى حدود المناطق السكنية التي اشترط المخطط ان تكون لكل منها حدائقها ايضا كي تتعمم الاحزمة حفاظا على البيئة والصحة.
الذي حصل ان حكومتنا الرشيدة، وكي ترضي من ترضي، عملت على التدمير الممنهج لذلك الحزام الذي استغرق تثبيته سنوات وسنوات. هنا صالة تزلج. هنا مجمع تجاري. هنا مبنى تجاري. هنا مركز ألعاب للاطفال. هنا مسجد ضخم في وسط البلد وفي منطقة صعب الوصول اليها بين طرق سريعة، ولم يفهم احد حتى الآن لماذا اقيم على حساب هذه المساحة المحدودة من الاراضي الخضراء بينما عشرات المساجد منتشرة الى يمينه ويساره وشماله وجنوبه. لماذا كل هذه المنشآت في البقعة الاجمل؟ لماذا لم ترتفع خارج الحزام الاخضر حيث المساحات شاسعة وغير بعيدة عن وسط المدينة؟ لا لشيء إنما لخنق الرئة التي تتنفس منها الكويت ولغياب الرؤية وضعف الاحساس بالمسؤولية… حتى لا نطلق العنان لتفسيرات اخرى.
«إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل»… هكذا قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وهكذا نشأنا على قاعدة «ازرع ولا تقطع» لكن حكوماتنا تقطع ولا تزرع.
من «التأمينات» والحزام الاخضر الى مختلف الامور والقطاعات. عندما تضع الدولة ضوابط وخططاً وانظمة لنسب البناء والمباني التجارية والاستثمارية والسكن، فانما تفعل ذلك في اطار طويل الامد لانه مرتبط ارتباطا وثيقا بجملة عوامل اهمها قدرة المساحات وشبكة الطرق ومستويات الطاقة من كهرباء وماء والتركيبة السكانية… ثم في لحظة ما. لحظة ارتجالية فورية. لحظة التشابه مع دول مجاورة ربما. لحظة ارضاء هذا وذاك. تقرر الحكومة تغيير أنظمة نسب البناء من دون مراعاة للارتباط بالعوامل الاخرى، فترتفع الابراج (وجلها غير مسكون) فارضة ضغوطا متزايدة على شبكتي الماء والكهرباء في وقت تعاني الشبكتان من مشاكل وتحتاجان الى تحديث وتطوير. ويزداد عدد الطبقات علوا في المناطق السكنية الداخلية فتنحشر السيارات حشرا عند زوايا الطرق وتختنق الشوارع.
عندما تخطط الدولة وتضع أنظمة فانما تفعل ذلك على المدى الطويل كي تعبر الى المستقبل بشكل علمي ومتحضر، لكن العشوائية التي اعتمدت في الامثلة الثلاثة السابقة هي نفسها العشوائية المعتمدة في كل شيء والتي أدت الى التخبط الذي نعيش فيه وبالتالي الى تجميد الكثير من المشاريع وبالتالي ركوب الكويت قطار التأخر.
المعادلة بسيطة. عندما تبني جامعة لالفي طالب على اساس الموجود عندك في ذاك الوقت قبل عقود، من دون ان تمتلك الرؤية والدراسات لتعرف ان عدد الطلاب سيكون لاحقا بعشرات الآلاف فستصل الى يوم كالذي وصلنا اليه حيث الجامعة لا تستوعب الجميع وحيث الابتعاث الخارجي يحل جزءا من مشكلة وحيث المباني الجامعية الحديثة الواسعة محفوظة في الادراج. الشيء نفسه بالنسبة الى من يضع تصاميم لمطار يستوعب عدد المسافرين التقديري لحظة انشائه من دون ان تكون للحكومة رؤية بان حركة السفر ستكون أضعافا مضاعفة بعد عقدين، وها نحن اليوم من توسعة الى أخرى.
تستسهل الحكومة القرارات الفورية الآنية التي تعتقد انها تحظى بشعبية تمكنها من تجاوز استحقاقات سياسية أو تساعدها على تخطي أزمة ما. الحكومات لم تكن تستوعب ان المطلوب وطنيا ليس حماية وجودها أو تطويل اعمارها أو انقاذها من مآزق بل حماية حاضر الكويت وتطويل عمر التنمية وانقاذ المستقبل. لم تستوعب هذه المعادلة لانها قاصرة أو عاجزة ولا تمتلك الرؤية للتخطيط الطويل المدى ولا الشجاعة لتنفيذها ولا الصلابة في وجه المعترضين بمن فيهم اولئك الذين يعتبرون الشارع ورقة يحركونها ساعة يشاؤون.
هل الازدحام المروي الخانق وليد ساعته؟ هل انقطاع الكهرباء والماء وليد ساعته؟ هل تكدس آلاف الخريجين بلا عمل وليد ساعته؟ هل عدم وجود مقاعد جامعية كافية وليد ساعته؟ هل توقف مشاريع التنمية وليد ساعته؟ هل وجود مئات الآلاف من العمالة الهامشية وليد ساعته؟ هل تقوية العلاج في الخارج على حساب العلاج في الداخل وليد ساعته؟
غياب التخطيط يضخم المشكلة ويرفع تكاليف الحل، والخاسر الوحيد هو الكويت مهما ارتفعت أيادي المسؤولين بالتحيات في كل مناسبة وتوزعت ابتساماتهم على خريطة اجتماعية… تنكمش حدودها باستمرار.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق