كل حالة نفسية هي سلاح ذو حدين، فالوحدة مثلا، جيدة للاختلاء بالنفس ومراجعتها ومحاسبتها، للتخطيط والتركيز والابداع بعيدا عما يشتتنا. لكنها ان طالت، قاتلة وتجلب الضيق والتعاسة والأحزان. تماما كما أن الاختلاط بالناس والاجتماع بهم، رائع وحيوي ومنعش للنفس والعقل من خلال النقاشات والمشاورات ومشاركة الضحك والمناسبات. لكننا في وقت محدد، نحتاج الانسحاب والانفراد بالنفس.
ربما، يخاف البعض الوحدة، لأنهم لا يعرفون كيف يكونون بصحبة لأنفسهم، لأنهم لم يعثروا على وسيلة للتواصل معها من خلال اكتشاف مواهبهم أو حتى هواياتهم. وربما هناك من هو غارق في الوحدة لدرجة أنه لم يعد يستوحش منها.
من هذه المفارقات والمركبات الجدلية، نشأت فكرة المواقع الاجتماعية. فإن كنت وحيدا، غرّد لتعبر عما تضج به نفسك، وان كنت مع الناس، غرّد لتشاركهم بنقاش أو فكرة. وكذلك، انشاء صفحة في «فيس بوك» تعبر عنك، واجمع اصدقاء متشاركين وشكّل عالمك الخاص معهم. وكذلك في «انستغرام»، انشر صورا من تصويرك ليستمتع بها الآخرون، أو صورة أعجبتك، ليعلقوا عليها. وغيرها من المواقع والصفحات. أليست هي موجودة، لنقول: نحن هنا، موجودين، هذه حياتنا، تفاصيلها، ألوانها، أحزانها، أفراحها، مشاويرها، أخبارها.
نحن هنا. هذه صورتي وأنا فرح، أو حزين، هذا طعامي اليوم، ورود وصلتني. وأنا أرسم، أكتب، أبني، أتسلم جائزة، أحضر اجتماعا، مع أصدقائي، أهلي… وحدي، أسفاري وترحالي. اليوم، شاركتني قهوتي فراشة، وبالأمس حلّق طير فوق رأسي. تراكم غيم مسافر حولي، أشعل المطر أشواقي لمن غاب عن ناظري… وهكذا. نشارك لنقول نحن موجودين… هنا، في هذه اللحظة، وفي هذا المكان، أنا كنت هنا، أكون هنا اليوم، وسأكون هناك غدا.
أليس هو مشروع للهروب من الوحدة. بنشر كلام أو صور، نعبّر من خلالها ونعلن وجودنا. وبعد انتهاء النشر والتعليق والمشاركات، ألا نغوص مجددا أعمق في وحدتنا من جديد. لتبرز الحاجة للنهوض منها والاعلان عن وجودنا ثانية. انها جدلية الوحدة، منها وإليها، خارجا منها، وعائدا اليها. نحتاج أن يشهد الآخر على وجودنا وانفعالاتنا ونشاطاتنا وأدق تفاصيل حياتنا. والوقوف على حقيقتنا، ومشاعرنا وحتى أسرارنا. نحتاج هذه الشهادة، حتى لا يذهب وجودنا سدى، وحتى لا تكون حياتنا قد مرت عبثا، ولم يبتسم أو يضحك أو يشهق أو يدمع شخص، على كلمة أو صورة أو عبارة قلناها أو كتبناها.
twitter@aliashuaib
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق