تروي لنا «ساق البامبو» مشقة «عيسى الكويتي» الذي يسير على «درب آلام» خاص به، متواز مع دروب الآلام التي يقاسيها الكثير غيره من الشباب في الكويت والعالم بسبب جدران اجتماعية مشيدة على أسس تطرف عنصري وطبقي يتناقض بشكل صارخ مع أبسط القيم الدينية للناس، حتى أشد المتدينين منهم.
من يقرأ «ساق البامبو» يدرك كيف ان مجتمعاتنا مازالت تبني سجونها النفسية والمعنوية الخاصة بها على غرار السجون التقليدية وتنفي اليها شبانا وفتيات مع أحلامهم وطموحاتهم على أسس اللون والعرق والدين وغيرها من النزعات العنصرية التي تضع الإنسان في قفص الاتهام من اللحظة الأولى لولادته ثم في دائرة النبذ والعزل لاحقا.
استخدم سعود السنعوسي مؤلف الرواية المرشحة بجدارة لجائزة بوكر العربية هذه السنة «البامبو» (الخيزران) كرمز شامل لما يجب ان يكون عليه مفهوم الإنسانية من رسوخ ومساواة بغض النظر عن المكان ـ كنبتة البامبو التي تنمو في كل مكان تغرس فيه وان اختلفت تسميتها.
ويسلط المؤلف الضوء على تجربة شاب مولود لأبوين كويتي وفلبينية وما يواجهه من صعوبات نتيجة هذا التناسب الذي يراه المجتمع «غير متكافئ» ويحكم عليه بقسوة، وأول الجلادين الأقرباء وأهل الوالد الكويتي الذي هالهم ان يعرف المجتمع بحقيقة زواج ابنهم من خادمة فلبينية.
أعادتني الرواية بالذاكرة لعمل كويتي آخر صدر قبل سنوات للزميل وليد الجاسم بعنوان «فانيلا» يستخدم نبتة «الفانيلا» كرمز ويتحدث عن تجربة تمييز أخرى بين الكويت و«كيرلا» في الهند، والعملان الأدبيان يركزان على «التطرف المجتمعي» الذي يرقى إلى مستوى معاداة الإنسانية!
«ساق البامبو» ليست دراسة أو مقالة رأي بل رواية جميلة لكننا نشعر في نهاية المطاف بفضل شدة واقعيتها وبساطتها، اننا كنا بصدد استعراض دراسة تشريحية للمجتمع طبقيا ونفسيا ولا يصعب ان نستشف رأي المؤلف ـ وان أورد رسائله بطريقة غير مباشرة ـ على لسان مترجم هو في الحقيقة إحدى شخصياتها.
هناك العديد من العناصر التي تؤهل «ساق البامبو» لتعتبر عملا متميزا على مستوى العالم العربي منها مبناها وفكرتها الذكية، التي يختفي فيها الكاتب حيث ينقل لنا الشاب عيسى الذي استبدلت أمه اسمه بـ «هوزيه» قصته مباشرة عن طريق مترجم يدعى ابراهيم سلام عايشه خلال مغامرته في بلد والده الكويت التي حقق حلمه بزيارتها.
وعلى صعيد الأسلوب تتمتع الرواية الطويلة نسبيا (396 صفحة من القطع المتوسط) بانسيابية أخاذة، فرغم غياب الأحداث الكبرى الصادمة باستثناء العلم بخبر استشهاد «راشد» أبو «هوزيه» خلال الغزو العراقي للكويت، إلا ان براعة المؤلف في تصوير الواقع بأدق وأصدق تفاصيله الإنسانية، والأهم من ذلك الدفء الإنساني الذي تختزنه المشاهد والمراحل المتلاحقة، يبقيان القارئ في حالة تشويق بانتظار النهاية.
وبالنسبة للمضمون، وفي الجزء الثالث من الرواية وهو الأجمل والأعمق برأيي اضافة للحديث عن الإسلام في نهاية الجزء الرابع، يغوص العمل في تفاصيل التركيبة الدينية لذهنية «هوزيه» ويعبر منها الى مقارنة بين الأديان ـ حتى اللا سماوية منها ـ على مستوى الجوهر، فنعيش معه أجواء فلسفية بطريقته وإن كانت شبيهة بما قرأناه في أعمال كثيرة بهذا المجال مثل «خيمائي» باولو كويلو و «ليون الأفريقي» لأمين معلوف، إلا ان السنعوسي يقدم لنا تجربة في مكانين آخرين في العالم، الكويت والفلبين ويستهل هذا الجزء بعبارة رائعة لبطل الفلبين القومي خوسيه ريزال أحد أبرز الثوار ضد الاستعمار الإسباني والذي قال: الشك في الله يعني الشك في ضمير المرء، وهذا يؤدي الى الشك في كل شيء.
وبينما لم استغرب ان يبدع السنعوسي في الحديث عن تركيبة المجتمع الكويتي وقصصه وعاداته اعترتني الدهشة وأنا أدخل عبر الرواية الى دهاليز حياة المواطن الفلبيني بإرثه الشعبي في حواري مانيلا وثقافته القومية ومعتقداته وخرافاته ورموزه: السلحفاة، ثمرة الأناناس.. وغيرهما.
وعلى مدى صفحات الرواية تقابلك تلك الجمل والعبارات سواء تلك التي خطها قلم السنعوسي أو المقتبسة والموظفة توظيفا رائعا فيرافقك شعور بأنك في حديقة أدبية غنّاء: «العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله، حيث لا مفر من المواجهة..».. «كل شيء بسبب ولسبب».. «وحده الصمت قادر على تحفيز أصوات بداخلنا، تبدو لأناس آخرين، نطمئن لهم، يرشدوننا الى أماكن غير مألوفة، نحث اليها الخطى مطمئنين».. «كم كنت أعشق الأرض التي نشأت بها، كم من الوقت كنت اختلي فيه بنفسي متأملا الأشياء من حولي، حتى خلتني احدى أشجار أرض جدي، لا استبعد فكرة ان يورق رأسي، أو ان تنبت ثمرة مانجو خلف أذني.. وأحيانا أتخيلني حصاة مهملة في الأرض ذاتها، قد يتغير مكانها، يطمرها الرمل ويكشف عنها المطر، ولكنها تبقى هناك».
هذا النوع من التشكيل الأدبي يزين الرواية من بدايتها الى نهايتها ويبث فيها الحياة بقوة ويجسد الجهد الــذي بذلــه السنعــوسي في إنجــازها بكــل دقــة وأنــاة.
وفي النهاية، «إن لفظت الديار أجسادنا.. قلوب الأصدقاء لأرواحنا أوطانا»، هكذا يختم عيسى أو هوزيه تجربته بعد ان يعود من الكويت وبعد أن أقرت أسرته بشرعيته جينيا لكنها رفضت إعطاءه الشرعية الاجتماعية وهو يحمل دماء أمه الخادمة الفلبينية، ورغم ان الاندماج في هذا المجتمع سهل وليس صعبا والناس طيبون إلا ان ثمة حدودا لا يمكن تجاوزها، ليس في الكويت فقط بل حتى في الفلبين إذ وجد هوزيه في ميرلا ابنة خالته غير الشرعية المولودة لأب أوروبي والمنبوذة هناك الزوجة الأنسب له، وهو ما لا يقبل عليه أي فلبيني عادة!
وهذا يدلنا انه لا مجتمع على الأرض يخلو من وجوه العنصرية وهو ما يعطي «ساق البامبو» رغم انها محددة بمكانها وزمانها بعدا إنسانيا وكونيا».
شكر
أشكر الزميلة سعدية مفرح والصديق بدر ناصر ششتري المتحمسين جدا للرواية وقد وصلتني من كل منهما نسخة منها.
إهداء المؤلف
إلى مجانين لا يشبهون المجانين.. مجانين.. لا يشبهون إلا أنفسهم.. مشعل.. تركي.. جابر.. عبدالله ومهدي إليهم.. وحدهم.
شخصية المترجم ابراهيم سلام جزء من الرواية
في نهاية الكتاب يضع المؤلف عبارة موجهة للمترجم الذي ينقل الرواية على لسان هوزيه وهو جزء منها.
تصل إلى إبراهيم محمد سلام
هاتف رقم: 00965253545
الكويت – الجابرية – قطعة 1 ب – ش416 – بناية 32 – الدور الأرضي.
شقة رقم Isa
قم بكتابة اول تعليق