بوسعد لحَق على الغوص.. ويتذكر بألم عميق وضيق شديد أنهم كانوا يقضون اشهراً عديدة في البوم للغوص بحثاً عن اللؤلؤ وشاف الويل والهوايل والضيم والظلايم، من جوع فيه ما يرحم، ويشوف الموت في كل غوصة يغوصها، اعتماده على رحمة رب العالمين ويقظة السيب، وبعد كساد بيع اللؤلؤ بسبب زراعة اللؤلؤ الصناعي الياباني سافر بو سعد مع الابوام للهند، شاف التعب والشقا لا ليلهم ليل ولا نهارهم نهار، فالبحر وحش يلتهم اكبر السفن ومن فيها، فما بالك بأبوامنا البسيطة؟! نعيش أشهراً بالسفينة في البحر نتنقل من ميناء الى ميناء نحمل البضائع الثقيلة على ظهورنا من البوم الى رصيف الميناء وبالعكس، ونحاتي اهلنا بالاشهر بعيدين عنهم ما ندري هم زينين او تعبانين، هل هم ماكلين ومرتاحين، هل طيبين او مرضى؟ واهلنا يحاتونا ما يدرون عنا حيين ميتين، كم بوم طبع بالسفر وكم غواص افترسه سمك الجرجور، وكم غواص اذاه سمك «الدول» السام!
وتذكر بوسعد بألم، وهو جالس في بيته العربي الحكومي القديم في صليبخات، والذي ما زال على وضعه ينظر الى يديه وآثار تقرحات الجروح عليها بسبب تكسير الصخر وتقطيعه بعشيرج، بواسطة «الهيب»! وهو «كالرمح انما ثقيل جداً لانه مصنوع من الحديد»، يالله ما اثقله هذا الهيب! نعمل من الفجر الى المغرب، وبعدها اتذكر عملي الشاق في بنيان البيوت. منطقة الصليبخات تجمع جميع طوائف، اهل الكويت بقبايلهم وطوائفهم وحضرهم، فصديقه وجاره في صليبخات بوحسن الكندري كان في الماضي يحمل قِرَب الماء الثقيلة من الصبح الى المغرب، من دون راحة، على ظهره التعب ليبيعها للبيوت، وصديقه وجاره العزيز حجي عباس السمح، والذي كان قلافاً يبني السفن الشراعية التي تخوض البحار والمحيطات، وصديقه وجاره الآخر الكريم الطيب بومطلق الذي كان يجلب الجلود والاغنام والدهن الى سوق الكويت ما قبل النفط والذي كان سيفه على خصره وبندقيته على كتفه للدفاع عن الكويت بشجاعة وبسالة. لقد كان الكل في كويت ما قبل النفط يحاول ايجاد لقمة العيش بكل السبل، سواء بحفر القلبان للماء لشرب البشر والماشية او يعمل شاوي غنم ليسرح بغنم الفريج خارج السور، او من غيرها من الوظائف والحرف.
ويتذكر بوسعد كيف بنوا جميعاً السور الثالث «البعض ينزعج جداً حين نفخر ببناء السور»، بنيناه جميعاً متكاتفين، وكان بناء السور الثالث في شهر رمضان في الصيف، وكان عملاً شاقاً جداً، وكل منطقة مسؤولة عن جهتها: الشرق وجبلة والمرقاب، وكل فريج مسؤول عن الجهة القريبة منه، من يقطن بفريج العوازم يكون البنيان من جهة فريجهم، ومن يسكن بفريج الرشايدة من جهة فريجهم، ومن يسكن بفريج مطير من جهة فريجهم، ومن ينتمي الى عيم الكويت الكرام من جهة فريجهم، ومن الكنادرة الكرام من جهة فريجهم، ومن ينتمي الى العوضية الكرام من جهة فريجهم، ومن ينتمي الى الفوادرة الكرام من جهة فريجهم، ومن ينتمي الى الشطاطوة الكرام من جهة فريجهم، ومن ينتمي الى النجادة الكرام من جهة فريجهم، وفرجان البحارنة والحساوية والقلاليف الكرام قاموا بدورهم المشرف في بناء السور.
ويتذكر بحارنا بوسعد امراضاً داهمتهم وفقراً وشقاء مرا بهم، ويتذكر كيف استولى متنفذون مع اعوانهم وفداويتهم على مساحات شاسعة من أراضي الكويت لم تكلفهم سوى وضع براميل لتحديدها، جعلتهم اليوم من اغنى اغنياء العالم. وللاسف، لم توقف الطمع والجشع في صفاتهم وطباعهم! فما زالوا ينهبون ثروات الوطن من دون رحمة ولا خوف، بل جشعهم وطمعهم اللذان لا حدود لهما جعلاهم يتصارعون في ما بينهم. ما نقول الا الله يهديهم او الله ياخذهم ويفكنا من شرهم.
واتت بعدها ازمة المناخ، حيث وزعت الدولة مئات الملايين من الدنانير لمقامرين بالبورصة، واليوم هناك من يجتهد لاضاعة اموال الاجيال القادمة، على مقترضين غالبيتهم فسفس امواله وبددها على شراء امور استهلاكية.
وغزانا ظالم مكابر ناكر للجميل فشتتنا جميعا وذقنا مرّ المعاناة، شيوخاً وشعباً، سواء من صمد وعانى من ظلم وارهاب جنود صدام ومخابراته، ولم يخفف عنهم سوى تآزر وتعاون أهل الكويت. أو من خرج غريباً مشرداً في ديار الخليج والعرب، فلا كرامة لانسان الا في وطنه، ودعونا الله ان يتم تحرير وطننا حتى ولو سكنا الخيام فيه.
وقد استجاب الله لتضرعاتنا، وسخر لنا اميركا والغرب وبعض دول العرب والمسلمين وغيرهم الذين التقت مصالحهم مع تحرير الكويت، ولولا حكام وشعوب السعودية والخليج لما تحررت الكويت الا انه لم يعتبر احد، لا شعب ولا شيوخ ولا حكومة ولا نواب مجلس الأمة، وبعد ان أنعم الله علينا بتحرير الكويت، الا انه للاسف الشديد فبعد التحرير مباشرة زاد الفساد والفوضى وتفشّت الواسطة واصبح النائب معارضا او بصاما يشق ويخيط ويزداد ثراء في الدولة بمباركة وتواطؤ وتشجيع وتخاذل من الحكومة!
يتحسر من بنى كويت ما قبل النفط على احوالها اليوم، فيتساءل بحارنا البسيط بوسعد: لماذا زاد الفساد بهذا الحجم، وكأن الجميع يتسابق ليعيث في الكويت فساداً أكثر؟ وكأن هذا هو هدفهم وهذا جزاء وطن اغناهم واكرمهم، والا فما الذي يجعلهم لا يبالون بالنصح والنقد وما لهم شغل كلش بالدراسات التي اعدها الخبراء؟ وقال بحارنا البسيط متأثرا لضياع الكويت: آه، ثم آه لقد قهرونا بتخبطهم «حسبي الله» على من اهدر ملياري دولار على (الهبنّي) في عدم اقرارهم عقد «الداو»، حسبي الله على من جعل الواسطة هي القاعدة وتطبيق القانون هو الشواذ، حسبي الله على من عيّن قيادات فاشلة فاسدة لا تعرف سوى التملق لبعض الشيوخ ونواب معارضة وبصامة وكل قيادي فاشل محسوب على احدهم، ولهذا يمشي ويكسر القوانين لواساطتهم، حسبي الله على من ابعد كل قيادي يستحق، وجعل محله قيادياً لا يستحق!
***
هاج الضمير
قرر بوسعد ان يتذكر اياما مضت، فتجول جهة البيوت العربية القديمة في جبلة وشرق والتي أهملت وهدم بعضها واصبحت اطلالا، ينعق فيها البوم من بعد ساكنيها من بعض اهل الكويت القديمة الطيبين، فأخذ يردد قصيدة «هاج الضمير» للمرحوم ناصر النصرالله.
عندما مر الشاعر المرحوم ناصر النصرالله بحييه القديم (فريج السبت) والذي كان يقطنه في صباه، وقد هدمت منازله واصبح خاويا والخراب محيطا به من كل جانب، وذلك بعد ان كان حياً عامراً مليئا بالحركة، فانهالت عليه ذكريات الماضي والاصدقاء وبعض الشخصيات المشهورة في الحي مثل عنبر وسلوم وبوهندي والدقيسي وغيرهم فأنشد:
هَاج الضمير وخلف القلب مهموم
صوتٍ لعى في ليل يشكي إهمومه
يبجي وهو ببجاه ما هو ابمليوم
إللي على ربعه بجى من يلومَه
ياهيه ياللي ساهرٍ ما هوى النوم
لين الدِّجَى انحت وغابت انجُومه
أشجيت مشتانٍ وهيضت مهضوم
وادميت قلب جامياتٍ اكلومَه
دهرٍ رُماك وسيل ادماك بسهوم
مثلك رماني ما خطتني اسهومه
ويلاه يا ربعٍ مناعير وقروم
لاطاحَ طايحهم قضوا له لزومه
جم اسعفوا من طاح او صاح مظلوم
تفازعوا له لين شدوا اعزومه
أصحاب نخوات و وفَى دايم الدُّوم
وقلوب بيضٍ ما تعرف الخصُومه
تفرقوا من عقب ما الشمل ملموم
وامست منازلهم خراب امهدومه
عقب الغمار امست معشش بها البوم
سوارح الفران في كل كومه
مريتها قبل امس في صمت ووجوم
ما جنها مدّهال قعده وقُومه
اللهُ أكبر وين عنبر وسلوم
وين الدقيسي وبوهندي وقومه
من عقب ما هم بينا مثل النجوم
صاروا ارمام وسط الاجداث نومه
ذكرتهم وانهل بالخد مسجوم
دمع جمى وبل همي من اغيومه
يقطعش يا دنيا على حال ما دُّوم
كم جمعت شمل وفلت احزومه
حياتنا جنها خيالات وحلوم
رؤياً يراها نايمٍ في احلومه
ولكلِ مخلوق بها يُوم محتوم
ماله ملاذٍ عنه لاحل يومه
آمنت ما يُكتب على العَبد مقسوم
واللِّي انكتب يلقَاه خيره وشُومَه
***
اصبح من أسس الكويت ودافع عنها في مرحلة ما قبل النفط تتجاهله الدولة ولا تهتم به، جميع أمم العالم تأتيها الهجرات بشكل دائم وبشكل مستمر، وتكمل مسيرة من استوطن في السابق. فمن تجنس في الكويت بعد ظهور النفط من ابناء البادية زاد الكويت بثقافته الجميلة والتي اكملت ثقافة الاجداد بروح الشهامة والكرم والشجاعة والعطاء.
والحرص على بناء كويت افضل، جميعنا من دون استثناء، سواء من استوطن قبل النفط او من وفد اجداده وآباؤه الى الكويت بعد النفط جميعنا نعشق الكويت، بدواً وحضراً سنة وشيعة، ونضحي بأرواحنا من اجل رفعة شأنها والدفاع عنها، لهذا نطالب جميعا بتطبيق القانون على الكبير قبل الصغير، وجميعنا نطالب بتنفيذ مشاريع متعطلة وجميعنا نطالب بتنفيذ دراسات مهملة اعدها الخبراء تم تجاهلها، وجميعنا نطالب بمعاقبة المقصر المهمل الفاسد، وجميعنا نطالب بتطوير الخدمات التعليمية والصحية والخدمية؟ فالكويت وطننا جميعا، عزها عز لنا جميعا وسقوطها سقوط لنا جميعا.
المهاوشجية
وتذكر بحارنا في تلك الفترة بسبب البطالة والشطانة يجدون اتفه سبب لشن الهوشات بين الفرجان، وابتسم حين تذكر كبار المهاوشجية:
بومطيح ومحمد الحديبي في المرقاب وسلوم اللقلق في منطقة جبلة وراشد الرقروقه فريج شيوخ
بومشكال شرق وكان يتصف بالقوة والجرأة والتحمل.
***
رجال من الزمن الجميل
في عام 1910 أصر الشيخ مبارك الصباح – رحمه الله – على مضاعفة الرسوم التي يدفعها التجار عقب كل موسم غوص، وذلك لتمويل حملته ضد خصمه اللدود سعدون باشا المنصور زعيم قبيلة المنتفق.
اغضب تجار الكويت وطواويشها فهاجر خلسة كل من المرحوم هلال فجحان المطيري رحمه الله، والذي كانت ثروته تبلغ ثمانية ملايين روبية، حيث اتجه الى البحرين وكذلك المرحوم ابراهيم المضف رحمه الله ايضا هاجر الى البحرين.
أما المرحوم شملان بن علي آل السيف رحمه الله فاتجه الى جزيرة «جنة» حيث يسكنها بنو خالد «العماير» ومعه الطواويش: المرحوم راشد بورسلي، المرحوم احمد المناعي، المرحوم سعد الناهض السهلي والمرحوم صالح المسباح.
وارسل لهم الشيخ مبارك الصباح – ليعتذر منهم – وفداً مكوناً من:
الشيخ سالم المبارك رحمه الله، والمرحوم حسين بن علي آل سيف رحمه الله، والمرحوم فارس الوقيان رحمه الله، والمرحوم ناصر البدر رحمه الله، واعطوهم الامان وقبلوا بالعودة ما عدا التاجر هلال المطيري، فقد اضطر بعدها الشيخ مبارك الصباح رحمه الله إلى ان يذهب الى البحرين، لمراضاة التاجر هلال المطيري رحمه الله.
***
● ولا ننسى ذكر الغواص المرحوم حمد حمد محمد البصيلي، انه كان من الغواصين الذين غاصوا في بحر سيلان.
***
● نحمد الله على عودة سمو ولي العهد إلى أرض الوطن مشافى معافى غانماً سالماً.
خليفة مساعد الخرافي
kalkharafi@gmail.com
kalkharafi@
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق