رحلتي الى واشنطن ككل رحلاتي لابد من أصطدم بمفاجأة أو أفاجأ بصدمة، رغم أن الصحافي الذي يقضي سنوات طويلة في بلاط صاحبة الجلالة يفقد الدهشة بل يفقد القدرة على الدهشة تماما حتى أنه ينسى متى آخر مرة رفع فيها حاجبيه من الدهشة، فقد شاهد كل المتناقضات بل ويساهم في كتابتها بين صفحتي جريدته وبشكل يومي، يرى تضادات البشر وتناقضاتهم وكذب الساسة، ليس الكذب فقط بل فن تطريز الكذب الحكومي لنفي حادثة ما، وبالمناسبة الحكومة لدينا تكذب ولكنها لا تجيده أبدا أبدا أبدا، وتلك قصة أخرى.
في واشنطن، وعندما اعتقدت أنني تجاوزت مرحلة الدهشة منذ سنوات، عدت من مقر الخارجية الأميركية في الساعة الـ 10ليلا الى مقر سكني، وحال وصولي طلبت بيتزا، بعدها بنصف ساعة اتصل بي سائق التوصيل من هاتفه الخاص يعتذر عن التأخير، وبينما هو يحادثني سمعت صوت نانسي عجرم يصدح في سيارته، قلت في نفسي هو مهاجر عربي آخر يعمل في توصيل البيتزا، المهم وصل بعد 5 دقائق، والمفاجأة الأولى أن سيارته التي أوصل بها البتيزا وملابسه وهيئته لا تدل أبدا على انه عامل توصيل بيتزا، ولشدة جوعي لم يستوقفني كثيرا هذا المنظر الصادم، تناولت البيتزا منه ومنحته 4 دولارات بقشيش، وتبادلنا الحديث بالعربية وأبلغني بانه من موريتانيا وقلت له انني من الكويت.
بعد نصف ساعة عاود الاتصال لكون رقمي موجودا لديه، وتحدث بكل أدب قائلا: «لأول مرة التقي بشخص من الكويت واستغرب انك تجيد لهجتنا الموريتانية ولكن إذا أحببت ان تتنقل في واشنطن او زيارة اي مكان في واشنطن فأنا وسيارتي تحت أمرك.. وأنا أعرض عليك هذا بالمجان لا أطلب مقابلا».
امتد الحديث بيني وبينه وبلغته بأنني لم استغرب عرضه الكريم لكون هذا أصلا طبع الموريتانيين، ولكون لا هيئته ولا منظره يدلان أبدا على انه عامل توصيل بيتزا عادي، ولكنه لم يمهلني وقال لي: «حسنا أنا من سيصدمك.. فأنا ابن وزير الخارجية الموريتاني السابق عبدالله ولد حميدة وأنا هنا أدرس لغة وأحب أن اصرف على نفسي بنفسي تلك هي كل الحكاية، والدي لايزال من كبار رجالات الدولة ولكنني أحب ان أعمل بنفسي، المسألة ليست مسألة بحث عن نقود ولا إشغال وقت فراغ بل مسألة اعتماد على النفس، وللعلم أنا احمل شهادة في برمجة لغات الكمبيوتر من باريس أي مهندس برمجة كمبيوتر ووصلت واشنطن منذ 6 أشهر».
«سداتي» هو اسمه، بكسر السين، وهو الابن الأوسط لوزير الخارجية الأبرز في موريتانيا، شخص حالة عامة بحديث عابر جمعني به، جملته الأخيرة أراها درسا للجميع في مسألة تكوين الذات رغم انه ابن رجل تفتح له أبواب المسؤولين متى ما أرد وأحب.
درس جميل جدا عدت به من واشنطن كان المحاضر فيه هو الراقي جدا سداتي بن عبدالله بن حميدة.
توضيح الواضح: اللهجة الحسانية التي يتحدث بها أغلب أهل موريتانيا تشبه اللهجة الخليجية بنسبة 98% وأخبرت «سداتي» بان سر إجادتي للهجته انني خليجي لا أكثر ولا أقل.
waha2waha@hotmail.com
المصدر جريدة الانباء
قم بكتابة اول تعليق